12 يونيو 2010

‏عامل الهاوية | نيكوس كازنتزاكيس




‏نجيء من هاوية مظلمة وننتهي إلى هاوية مظلمة، ونسفي الفاصل المضيء : الحياة. حالما نولا تبدأ العودة، يبدأ حالا الانطلاق والعودة، ونموت في كل لحظة. وبسبب ذلك صرخ كثيرون: إن هدف الحياة هو الموت! ولكن حالما نولا نبدأ الصراع لنخلق، لنؤلف، لنحول المادة إلى حياة، ذلك أننا نولا في كل لحظة. وبسبب ذلك أيضا صرخ كثيرون: إن هدف الحياة العابرة هو الخلود!


يصطدم في الكائن الحي المؤقت جدولان: الأول هو الارتقاء نحو التركيب، نحو الحياة، نحو الخلود. الثاني: الانحدار نحو التفكك، نحو المادة، نحو الموت. وينبع كلا الجدولان من أعماق الجوهر البدائي.
‏تدهشنا الحياة في البداية، وتبدو نوعا ما وراء القانون ومضادة للطبيعة، والى حز ما كإبطال مؤقت للينابيع الأبدية المظلمة، ولكن في الأعماق نشعر أن الحياة هي نفسها دون بداية، قوة غير مدمرة للكون. كل من القوتين المتعارضتين مقدس. بالتالي، من واجبنا أن نمسك تلك الرؤية التي تستطيع أن تعانق القوتين الضخمتين واللازمنيتين وفير المدمرتين وتمنحهما الانسجام، ومن واجبنا أيضا أن نعال، بتلك الرؤية، تفكيرنا وأفعالنا.
______________________________
التحضير الواجب الأول
‏أنظر إلى العالم بوضوح وهدوء وأقول: كل ما أراه، وأسمعه، وأتذوقه، وأشمه، وألمسه، هو من خلق ذهني. الشمس تشرق وتغرب في جمجمتي. من معابدي تشرق الشمس وفي الأخرى تغيب.
‏النجوم تشع في دماغي. الأفكار، الرجال، الحيوانات ترعى في رأسي المؤقت. تملأ الأغاني والبكاء المحارات اللولبية لأذني وتعصف في الجو للحظة. ‏دماغي يمحو وعندها يختفي كل شيء مع السماء والأرض. ‏عميقا في خلاياي الخفية تجهد حواسي الخمس، تنسج وتنكث الزمان والمكان، الفرح والحزن، المادة والروح. ‏كل شيء يدوّم حولي كنهر، يرقص ويصنع دوامات، الوجوه تتدفق كالماء، والعماء يزمجر.
‏لكن أنا، الذهن، أتابع الصعود بصبر ورجولة ثابتا في الدوار. وكي لا أتعثر وأسقط أنصب معالم فوق هذا الدوار، أرفع الجسور، أفتح الطرقات، وأبني فوق الهاوية. ‏مصارعا ببط ء، أتحرك بين الظواهر التي أخلقها، أميز بينها من أجل فائدتي، أوحدها بالقوانين وأخضعها لحاجاتي العملية. ‏ولا أعرف إن كان هناك جوهر سري متفوق علي يعيش ويتحرك خلف المظاهر. ولا أسأل لأنني لا آبه. أخلق المظاهر في أسراب، وأرسم، بباليت مليء، ستارة عملاقة وشفافة أمام الهاوية. هذه المملكة ابن لي، وهي عمل عابر وبشري. لكنه عمل صلب وليس هناك شيء أكثر صلابة، وفقط داخل حدود" أستطيع أن أبقى مثمرا وسعيدا ونشيطا في عملي. "
‏أنا عامل الهاوية، مشاهد الهاوية. أنا النظرية والتطبيق. أنا القانون وليس هناك شيء خارجي.
‏إن الواجب الأول للإنسان هو أن يرى ويقبل حدود الذهن البشري دون تمرد لا طائل منه، وأن يعمل ضمن هذه القيود الحادة دون توقف أو احتجاج. ‏ابن فوق الهاوية غير المستقرة برجولة وصرامة، المنطقة المستديرة والمضيئة حيث يمكن أن تطحن وتغربل الكون كمالك للأرض. ‏ميز بوضوح هذه الحقائق الإنسانية المرة والخصبة، التي هي جسك جسدنا، واعترف بها ببطولة: أولا، يستطيع ذهن الإنسان أن يدرك المظاهر فقط، لكنه لا يدرك أبدا جوهر الأشياء. ثانيا، لا يدرك جميع المظاهر وإنما مظاهر المادة وحسب. ثالثا، لا يدرك حتى مظاهر المادة وإنما العلاقات في ما بينها وحسب. رابعا، وهذه العلاقات ليست حقيقية ومستقلة عن الإنسان ذلك لأنها من خلقه. خامسا، وهي ليست الوحيدة الممكنة بشريا، لكن ببساطة الأكثر ملاءمة لحاجاته العملية والمميزة.
‏داخل هذه القيود يكون العقل هو الملك الشرعي والمطلق. وما من قوة أخرى تهيمن داخل مملكته. أعرف هذه القيود، أقبلها، دون تزفر، وبشجاعة، وحب، وأصارع بارتياح في حيزها، كأنني حر. أخضع المادة وأجبرها أن تصبح أداة ذهني الجيدة. أبتهج في النباتات والحيوانات، في الإنسان ‏وفي الآلهة كأنهم أولادي. أشعر أن الكون كله يعشش حولي ويتبعني كأنه جسدي.
‏وفي لحظات مفاجئة ومقيتة تومض عبري فكرة: هذا كنه لعبة قاسية وعبثية دون بداية أو نهاية أو معنى. لكنني أقيد نفسي ثانية، وبسرعة، إلى عجلات الضرورة ويبدأ الكون كنه بالدوران حولي مرة أخرى. ‏الانضباط هو أعلى أشكال الفضيلة. هكذا فقط يمكن أن تتوازن القوة والرغبة وتثمر مساعي الإنسان. هكذا، بوضوح، وصرامة، يمكن أن تحدد عجز العقل وراء الظواهر - قبل أن تنطلق نحو الخلاص. يمكن ألا تنقذك طريقة أخرى.
______________________________
‏الواجب الثاني
‏لن أقبل الحدود، لا تستطيع المظاهر أن تحتويني، أختنق! إن الواجب الثاني هو أن أنزف في هذا الألم وأعيشه بعمق. العقل صبور ويعدل نفسه، ويحب اللعب، لكن القلب يصبح متوحشا ولا يتنازل ليلعب. إنه يختنق ويندفع ليمزق شباك الضرورة.
‏ما فائدة إخضاع الأرض والمياه والهواء وغزو الفضاء والزمن! ما فائدة فهم أية قوانين تحكم السراب الذي يرتفع من الصحارى المخترقة للعقل، وظهوره وتكرره؟
‏بي توق واحد وحسب وهو أن أمسك ما هو مختبئ خلف المظاهر، أن أستكشف ذلك اللغز الذي ينجبني ويقتلني، أن أكتشف إن كان هناك وراء الجدول اللامرئي والمتدفق للعالم، حضورمختبئ لا مرئي وثابت. وإذا كان العقل لا يستطيع، إذا لم يكن مخلوقا ليقوم بمحاولة اختراق الحدود إلى ما ورائها، عندئذ أتمنى لو كان القلب يستطيع ذلك!
‏وراء! وراء! وراء! وراء الإنسان أبحث عن اللامرئي الذي يضربه ويسوقه إلى الصراع. أنصب كمينا لأكتشف أي وجه بدائي يصارع وراء الحيوانات ليطبع نفسه على اللحم الهارب من خلال خلق وتدمير وإعادة صياغة أقنعة لا تحصى. أصارع لأخطو وراء النباتات الخطوات الأولى المتعثرة للامرئي في الوحل.
‏يرن أمر في أعماقي: احفر! ما الذي تراه؟ "رجالا وطيورا مياها وأحجارا"
"أحفر أعمق! ما الذي تشاهده؟ "
‏"أفكارا وأحلاما، أخيلة وايماضات" أحفر عميقا أكثر! ما الذي تراه؟ "
"لا أرى شيئا! ليل ساكن كثيف كالموت. لا بد أنه الموت".
"احفر عميقا أكثر! "
‏"آه .. لا أستطيع أن أخترق الحاجز المظلم! أسمع أصواتا وبكاء. أسمع رفرفة أجنحة على الشاطئ الآخر. لا تبك! لا تبك! ليست على الشاطئ الآخر. الأصوات والأجنحة والبكاء هي قلبك. "
‏وراء العقل، على الحافة المقدسة للقلب، أتابع، مرتجفا. قدم واحده تمسك التربة الآمنة، الأخرى تفتش في الظلام فوق الهاوية. ‏خلف جميع المظاهر، أعبد جوهرا يصارع. أريد أن أمتزج به.
‏أشعر أن هذا الجوهر المقاتل يجاهد أيضا، وراء المظاهر، ليمتزج بقلبي. لكن الجسد يحول بيننا ويفصلنا. العقل يقف بيننا ويفصلنا أيضا. ‏ما هو واجبي؟ أن أحطم الجسد إلى أشلاء، أن أندفع وأمتزج باللامرئي. أن أترك العقل يسقط صامتا كي أسمع اللا مرئي ينادي. ‏أسير على حافة الهاوية مرتجفا. صوتان يتصارعان في داخلي.
‏العقل: "لماذا نبدّد أنفسنا في مطاردة المستحيل؟ داخل الحيز المقدس لحواسنا الخمس من واجبنا أن نعترف بحدود الإنسان" ‏لكن صوتا آخر في أعماقي - سمه القوة السادسة - يقاوم ويصيح: "لا! لا! لا تعترف أبدا بحدود الإنسان. دمر جميع الحدود. أنكر كل ما تراه عيناك. مت في كل لحظة لكن قل: إن الموت غير موجود" العقل: "عيني بلا أمل أو وهم وتحدق إلى جميع الأشياء بوضوح. الحياة لعبة، مسرحية، يؤديها ممثلو جسدي الخمسة.
‏"أنظر بشره، بفضول لا يعبر عنه، لكنني لست مثل الفلاح الساذج كي أؤمن بما أراه، أتسلق إلى خشبة المسرح كي أتدخل بمجرى العالم"
‏"أنا الدرويش، صانع العجائب، الذي يجلس ثابتا على مفترق طرق الحواس ويراقب العالم وهو ‏يولد ويتذمر، يراقب الرعاع وهم يهتاجون ويصيحون في الممرات المتعددة الألوان للغرور". "أيها القلب! أيها القلب الساذج، إهدأ واستسلم !"
‏لكن القلب يقف ويصيح: "أنا الفلاح الذي يقفز على خشبة المسرح ليتدخل في مجرى العالم!". لا أحتفظ بأصول أو توازنات، لا أهدف إلى تعديل نفسي. أتبع النبض العميق لقلبي.
‏أسأل مرة بعد أخرى، ضاربا العماء: "من الذي يزرعنا على هذه الأرض دون إذن منا " "من يستأصلنا من هذه الأرض دون أن يطلب إذنا ما؟". أنا مخلوق ضعيفٌ وعابر صنع من الوحل والحلم. لكنني أشعر أن جميع قوى الكون تدوّم في داخلي. وقبل أن تسحقني، أريد أن أفتح عيني للحظة وأراها. ولا أضع أمام حياتي أي هدف آخر.
أريد أن أجد مبررا واحدا كي أعيش وأتحمل المشهد اليومي المقيت لهذا المرض والبشاعة والظلم والموت. ومرة أخرى أنطلق من نقطة مظلمة، من الرحم، وأنطلق الآن إلى نقطة مظلمة أخرى، القبر. تقذفني قوه من الحفرة المظلمة لتجرني قوة أخرى وتقذفني بشكل نهائي إلى الحفرة المظلمة. ‏لست كالرجل المحكوم الذي مات ذهنه من الشراب. حجر ثابت برأس صاح، أخطو في ممر ضيق بين جرفين.
‏وأجهد كي أكتشف كيف أشير للذين يرافقونني قبل أن أموت، كيف أمد يدا وأهجي لهم، في الوقت المناسب، كلمة واحده كاملة على الأقل، لأخبرهم رأيي بهذا الموكب، وإلى أين نشجه. وكم هو ضروري، بالنسبة إلينا جميعا، أن تكون أقدامنا وقلوبنا منسجمة. ‏أن أقول في الوقت المناسب كلمة واحده لرفاقي، كلمة سر، كالمتآمرين.
‏نعم، إن هدف الأرض ليس الحياة، وليس الإنسان. عاشت الأرض دون هذين، وستعيش بدونهما. إنهما ليس إلا الشرارتين العابرتين لدورانها العنيف. ‏لنتحد، لنمسك بعضنا بعضا بشدة، لنوحد قلوبنا، لنخلق - طالما أن دف ء هذه الأرض يتحمل، طالما أنه ليست هناك زلازل وطوفانات وجبال جليد ونيازك تأتي لتدمرنا - لنخلق للأرض دماغاً وقلبا ونمنح معنى إنسانيا للصراع السوبرماني. ‏إن الألم هو واجبنا الثاني.
______________________________
ترجمة أسامة أسبر | مقتطفات من النص الكامل
المصدر : The Rock Garden
almasira_50X50 خاص بالمسيرة الالكتروني