4 يونيو 2010

كِتَابُ الضَّحِكِ والنِّسْيَان | ميلان كونديرا



الجزء الثالث
الملائكة
‏-1-‏
‏((وحيد القرن)) هو عنوان مسرحية لأوجين يونيسكو واضع الشخصيات المأخوذة برغبة أن تكون إحداها ‏شبيهة بالأخرى، متبادلةً الأدوار في مسرحية((وحيد القرن))، غبرييل وميشيل، شابتان أميركيتان كانتا تدرسان ‏هذه المسرحية من ضمن مقرَّر أعطي في العطلةللطلاب الأجانب في مدينةعلى شاطيءالمتوسط .


وكانتا التلميذتين ‏المفضلتين لدى السيدةرافاييل، أستاذتهما، لأنهمالا تَنيان تتابعانها بانتباه دائم، ولأنهما تسجلان بعناية أيا من ‏ملاحظتها .
وقد طلبت منهما اليوم أن تَحضِّرا سويَّةً، للمقرَّر التالي، عرضاً لمؤدَّى المسرحية.
قالت غابرييل:‏
‏((أكاد أن أفهم ما يعنيه هذا الأمر، أن يتحوَّل الجميع إلى وحيدي القرن.))فردَّت ميشيل شارحةً: ((يجب تأويل ‏هذاباعتباره رمزاً.)) قالت غابرييل‎:‎‏ ((هذا صحيح، فالأدب مصنوع من علامات.)) وأضافت ميشيل: ((لذا ‏وحيد القرن هو علامة قبل أن يكون أي شيء آخر.))
-نعم، و لكن حتى لو اتفقنا على أنهم لم يتحوَّلوا إلى ‏وحيدي قرن حقيقيين، بل إلى علامات محضة، فلمَ صاروا حقاً هذه العلامة لا تلك ؟))
فأجابتها ميشيل بنبرة حزن: (( نعم، إنها المشكلة حتماً.))ومن ثم أخذت الشابتان، اللتان كانتا عائدتين لتوهما إلى ‏بيت الطالبات، استراحة طويلة .‏
وقطعت غبرييل الصمت السائد بينهما قائلة‎ : ‎‏ (( ألا تظنّين القرن الوحيد رمزاًقضيبياً؟))
فردَّت ميشيل مستفهمةً: ((ماذا؟)) وقالت غابرييل: (( القرن، القرن))
فصرخت ميشيل: (( حقا ً!))‏
ولكنها سرعان ما استدركت: ((ولكن لماذا يتحوَّل الجميع إلى رموزٍ قضيبية؟النساء والرجال على السواء؟))
وصمتت الشابتان ثانيةً،بعد أن راحتا ‏تنطنطان بإتجاه البيت وقالت ميشيل فجأة: ((لديَّ فكرة)) فسأ لتها غابرييل باهتمام: ((ماهي؟)) أجابتها ميشيل ‏غامزةً من فضولها: ((على أي حال، إنه لأمر أوحت به السيدة رافاييل نفسها))
مما جعل غابرييل تلح بنفاد صبرها: ((قولي إذن، ماهو هذا الأمر؟))‏
‏ –لقد شاء المؤلف أن يخلق تأثيراً ضاحكاً!))
وما عتمت الفكرة التي عبَّرت عنها صديقتها لتوها أن تملكت ‏غابرييل تملكاً عجيباً، بحيث أرخت ساقيها وجعلت تبطىء في خطوها، مركزة كيانها كله على ما يحدث في رأسها ‏وتوقفت الشابتان.
وتوجهت غابرييل بالسؤال: (( أتظنين أن رمز وحيد القرن هو هنا لكي يخلق تأثيراً ‏مضحكاً؟)) فاجابت ميشيل: ((نعم))وابتسمت ابتسامة المفاخر الذي أيقن بأنه وجد الحقيقة الناجزة ونظرت ‏الشابتان الواحدة إلى الأخرى، فرحتين من جرأتهما الخاصة واهتز طرف فميهما طرباً و إ باءً ثم أطلقتا فجأة اصواتاً حادة، مختزلة ومتقطعة حتى ليصعب وصفها بالكلمات.‏
‏-2-‏
الضحك؟ألا يهتم المرء أبداً للضحك؟ أعني بالقول، الضحك حقاً، بما يتجاوز الدعابة، والهزء، والمضحك.
إنَّما ‏الضحك، أو المتعة العارمة واللذيذة، بل كلّ المتعة…‏
فيما مضى كنت أدعو أختي، أو تدعوني هي، قائلةّ: ((أنلعب معاً حتى الضحك؟))فنتمدد، جنباً
إلى جنب على السرير. ونروح نتظاهر بالضحك، طبعاً، ضحكات متصنَّعة وضحكات مضحِكة ثم ضحكات ‏مضحكة الى حدٍ كبير تجعلنا نضحك. وعندئذٍ يأتي الضحك الحقيقي، الضحك الكامل، فيحملنا في تدفقه الهائل، ضحكات‏ متفجرة ومستعادة، ومتدافعة وعاتية، ضحكات رائعة، وفاخرة ومجنونة، ونظل نضحك حتى لا نهاية ضحكاتنا…‏
‏ أوه الضحك !‏
ضحك المتعة، ومتعة الضحك، فالضحك هو العيش بعمق لا نظير له.
هذا النص الذي أتيت على ذكره هو ‏مقتطف من كتاب بعنوان ((‏كلام نسويّ))كتَبَته في العام 1974 إحدى الداعيات النسويّات المتحمسات اللواتي طبعن مناخ زمننا بطابع خاص.‏
‏ أنه لبيان صوفيٌّ عن الفرح.‏
‏ ومن الأفكار التي طرَحَتْها المؤلِّفة، أنها تضع في مواجهة الرَّغبة الجنسيةللذَّكر العُرضة للحظات القذف الهاربة، ‏وبالتَّالي المقرونة قدرياً بالعنف والإفناء والاضمحلال، تضع المؤلفة المُتعة النَسَوية معتبرةً إيَّاها نقيض الأولى لِكونها رقيقة ودائمةَ الحضور ومثابرة .
‏وطالما لم تَصِرّْ المرأ ة بعد مستلبة جوهرها الخاص فأن تأكل وتشرب وتتبوَّل وتتغوَّط و تلمس وتستمتع ،وحتىأن تكون حاضرة هنا،تبدو لها كل هذه الأفعال من المتع المرعوبة .ويمتد ‏تعداد للشهوات الحسَّية عبر الكتاب، بمثابة لائحة جميلة. ذلك أن العيش أمر في غاية الإمتاع :كأن يرى المرء ويسمع، ويلمس، ويشرب ‏ويبول، ويغوط، ويغطس في الماء، وينظر إلى السماء، ويضحك ويبكي.
بل إن جمال المضاجعة نفسها يكمن في كونها ‏تمثل جماع َمتع الحياة الممكنة: كاللمس، والرؤية، والسماع، والكلام، والإحساس، وأيضا الشرب والتغوّط، والتعرّف ‏والرقص.
وقد يُعد الإرضاع ذاته متعةً والوَضع نفسه يعتبر كذلك، أما الطمث فلذة، يحملها هذا البصاق الفاتر، ‏وذاك الحليب الباهت، وذلك السَيلان للدم الفاتر ومثل المحلَّى، حتى ليستشف من هذا الالم طعم السعادة ‏المحترق.
وحده الأحمق يجرؤ على الإبتسام هازئاً من بيان الفرح هذا.
إذ أن في كل تصوّف مبالغةً. وللتصوف ألا ‏يخشى المضحك إذا أراد أن يصل إلى الطرف الأخير، إلى نهاية المضحك، أو إلى خاتمة المتعة، وبمثل ما ابتسمت ‏القديسة تيريزا في احتضارها، تؤكد القديسة آني لوكليرك(مؤلفة الكتاب من حيث اقتطعت النصوص) أن الموت ‏ذاته هو قطعة فرح، وحده الذكر يخشاها، لأنه شديد التعلق، ببؤس، بأناه وسلطته الوضيعتين. وبمثل ما قد يحدث ‏لقبَّة معبد الشهوة، ها إن الضحك يوشك على الانفجار في الاعالي، ارتعاشة لذيذة من السعادة، وذروة قصوى ‏للمتعة، ضحك المتعة، ومتعة الضحك.
وإنه لمن الأكيد أن هذا الضحك الذي نعنيه هنا، هو ما بعد المزاح والهزء، ‏والمضحك الأُختان الممددتان على سريرهما لا بد من أن شيئاً محدداً لبث يضحكهما، وما كان لضحكهما غاية، ‏بل إنه التعبير الكائن عن فرحه بأن يكون موجوداً .
وبمثل ما يتأوه المرء آن يصيب الألم جسده، هكذا كل من ‏ينفجر بهذا الضحك الانتشائي، بغدو بلا ذكرى ولا رغبة، إذ يرمي صراخه في لحظة العالم الراهنة، ولا يود أن ‏يعرف شيئاً غير ذلك.
ولا شك أنكم تتذكرون هذا المشهد الذي طالما شاهدتموه في عشرات الأفلام الرديئة: فتى ‏وفتاة يركضان، يداً بيد، وسط منظر طبيعي ربيعي جميل( أو صيفي)، ويروحان يركضان، ويركضان، ويركضان ‏ضاحكين.
والحق أن ضحك هذين الراكضين لحريٌّ به أن يعلن للعالم بأسره ولمشاهدي كل السينمات إننا في ‏غاية الفرح وإننا لمسروران بأن نكون في العالم، ونحن في عز اتفاقنا مع كياننا!
ولئن بدا هذا المشهد غبيا ، وبمثابة ‏كليشيه فإنه لا يني يعبر عن وضع بشري أساسي: الضحك الجاد، الضحك لما بعد المزاح.
ويجمع على هذا ‏الضحك كل الكنائس، وكل صانعي القماش، وكل الجنرالات، وكل الاحزاب السياسية، وكل هؤلاء ليتسابقون ‏لكي يضعوا صورة هذين الراكضين الضاحكين على ملصقاتهم حيث يقومون بالدعاية لديانتهم، وسلعهم، ‏وعقائدهم، وشعوبهم، وجنسهم، ومسحوقهم لغسيل الأواني.
إنه هذا النوع من الضحك بالضبط، ما تضحكه ‏ميشيل وغابرييل، ها هما تخرجان من محل لبيع القرطاسية، وتمسك الواحدة بيد الأخرى، وتروح كل منهما، ‏تؤرجح في يدها الحرة، رزمة صغيرة حزمت فيها الورق الملون، واللصاق والمطاطات. قالت غابرييل: ‏
((لسوف تَُسَّر السيدةرافاييل بما جلبنا، سوف تَرَين ))وراحت تصدر أصواتاً حادة ومتقطعة .
وافقتها ميشيل الرأ ي، ‏وشرعت تُصدر نفس الضجة تقريباً .‏
------------------------------
مقتطف من رواية الضحك والنسيان |ميلان كونديرا - ترجمة أنطوان أبو زيد عن دار الآداب عام 1990