24 سبتمبر 2012

الرياض– نوفمبر 90 (مقتطف من الرواية) سعد الدوسري

الرياض نوفمبر 90 (مقتطف من الرواية) سعد الدوسري
“خرجتُ مجهداً من المكتب، كان المساء يشير إلى السابعة إلاّ ربعاً، أدرتُ مؤشر مذياع سيارتي إلى إذاعة لندن، دقّتْ ساعة "بيغ بن"، ثم بدأ "عبدالله المعّراوي" في قراءة النشرة.
"ضمن التحرك المقبل للإدارة الأمريكية، الذي ستحدده نتائجُ الجولة المهمة لوزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر، تأتي المباحثات والمشاورات التي سيجريها الرئيس جورج بوش في اجتماعاته مع عدد من قادة دول أوروبا الغربية، ومنطقة الشرق الأوسط خلال الجولة التي يبدأها في السادس عشر من شهر نوفمبر الحالي، وتستغرق أسبوعاً، يرجّح مراقبون ومحللون في أوساط دبلوماسية مطّلعة بأنها ستحدد عناصر العمل العسكري، الذي تتزايد المؤشرات على حتمية وقوعه".

تذكرتُ أن فاطمة ليست بالبيت، عندما خرجتُ صباح اليوم، أخبرتْني أنها ستأخذ الأطفال عصراً لزيارة أختي هيلة.
منزلنا ليس بعيداً عن الشارع العمومي. تمشي هي والأطفال إليه، تنتظرُ أول سيارة "ليموزين"، وهي تسترجع تحذيراتي.
-انتبهي، اذا لم تكن السيارة "ليموزين"، لا تؤشري لها، اسأليه بوضوح إذا كان يعرف المكان، ثم اصعدي أنت والأطفال في المقعد الخلفي.
- لا تقلق، بعد صلاة العشاء، ستأتي لتأخذنا.
انحرفتُ بالسيارة من شارع "التخصصي"، إلى الشارع الرئيس لحي "العليا".
حي العليا لا يهدأ في هذا الوقت، فهو خاصرة مساء الرياض ورقصته التي لا تنام.
العليا، شارع تتناثر على اسفلته قصاصات المواعيد التي لم ترتّبْ عطرها. وآهات تعبت الموسيقى من ملاحقة دندناتها المترفة.
كان "مروان"، شقيق زوجتي، يزور الرياض في إجازات المدرسة، قادماً من مدينة "الطائف" التي لم يبدأ فيها التعليم الجامعي. وفي كل زيارة تزداد قناعته بأن الرياض ستكون جامعته.
اختار العليا ليسكن في واحدة من عمائرها الخلفية، غضبتْ فاطمة في البداية؛ لأنه استأجر غرفة صغيرة في سطح البناية.
قال لها ضاحكاً:
- يكفي هذه الغرفة التي تحتقرينها، أن تكون في عمارة من عمارات حي العليا.
كان يعشقُ العلاقات العابرة، يكتب رقم هاتفه على شريط كاسيت، ويرميه داخل سيارة البنات اللاتي يتضاحكن له، ويلوّح لهن بيده أن يتصلن الليلة.
كان يهتم بمظهره كثيراً. ينفق مكافأة الجامعة في شراء أحدث الصيحات من البنطلونات والقمصان والعطور والأغاني.
كان أهل "الطائف" يرونه متغطرساً، ولم يكن يلقي لهم بالاً.
كان يقول:
- متى أنتهي من الثانوية، كي يريحني  الله منهم؟!
كان يحب قراءة الروايات الرومانسية، ومنذ صغره كان مهووساً بالنجومية، وبلفت الأنظار إليه.
لم يكن يقرأ كثيراً، لكنه كان موهوباً بكتابة الخواطر الوجدانية.
بعد أن انتقل إلى الرياض، وبتأثير الحياة المستقلة التي حلم بها كثيراً، تطوّرت لغته، كان يحـب أن يجالس المثقفين، وأن يستمع إلى الحوارات الساخنة، كان مستمعاً حذقاً، يتابع الأحداث السياسية بواسطة الآخرين، من دون أن يجهد نفسه بقراءة الصحف، أو الاستماع للإذاعات، كان جريئاً، يقرأ كتاباته أمام أصدقائه، وكأنه كاتب أنهكتْ التجارب خطاه. معظم موضوعاته تتركز في حرمانه من التعبير عن ذاته، أو بحثه عن امرأته المثالية التي تحمل مواصفاته الرومانسية.
- لذلك أحب العلاقات السريعة، أنا على استعداد أن أعيش تجارب مع عشر فتيات، وأن أجعل كل واحدة تحلم بي بشكل مختلف، هذا ليس كذباً أو تناقضاً، إنه فهلوة، أنا لا أقضي وقتاً طويلاً مع أي منهن.
- أليس هذا هو مصير أي علاقة عابرة؟!
- أنا أؤمن بأنني سأجد عبر هذه العلاقات امرأتي.
- لا أظن ذلك يا مروان.
- هل لديكَ وسيلة أخرى؟! كيف تريدني أن أجد امرأتي، أأطلب من أمي أن تدور بصورتي على بيوت المدن بحثاً عن ضالتي.  أنا لا أحتقر نفسي عندما أرمي رقم هاتفي على امرأة تستلطف ابتسامتي، ليس هناك مجال آخر في هذه الصحراء، أنتم تعدون العازب فيروساً سرطانياً سيلتهمُ أعضاءكم. في المطعم يجب أن نكون بعيدين عن عوائلكم، في الطائرة، في القطار، في السوق. وعندما أدخل مكتباً للعقارات، أبحث عن شقة تأويني، يسألني صاحب المكتب أول ما يسأل: أين عائلتك؟! أنا لست سوريالياً مثلكَ، أبحث عن امرأتي في شرفة الهواء المطلّة على قمر تركضُ الخيلُ على اغفاءة مروجه.
قاطعته:
- من أين سرقت هذه الصورة الشعرية؟!
تبددتْ الحدّةُ من أساريره، ثم ضحك.
- صدقني، هؤلاء الفتيات اللاتي أقابلهنَ في العليا، هنَّ الجياد التي لا أملّ الرهان عليهن.
كان مروان يعشق اغتصاب حريته، حتى لو كانت ريشةً في مهب عفاريت طائشة، يسافر بسيارته فجأة، وسط أيام الجامعة، من دون أن يخبر أحداً، إلى "البحرين" عن طريق الجسر ليقابل صديقته التي التقاها في إحدى سفراته المتكررة، في سوق "المنامة" الشعبي، وقال لها بجرأة: ما أجملك. وفي المساء، ومن غرفته في فندق "بيسان" يكون يتلو عليها بالهاتف خاطرةً من خواطره الوجدانية، وبعد أن يفرغ منها، يتصل بنا ليقول بانتشاء:
- لا تقلقوا عليّ، أنا الآن خلفَ الجسر، أشرب من ماء "ديلمون"، الذي سيصفّي قلبي من رمالكم، أخائفون أنتم على دراستي الجامعية؟! اطمئنوا، فهذا الماء سيجعل أمامي متسعاً من الوقت لأفعل كل ما تريدونه مني.
أثناء عزلتي، لم أجعلْ أحداً يطرق جدراني الموحشة.
قال لي مرة:
- إذا أردتَ ان تغلق الباب في وجهي أنا أيضاً، فسوف أنتظر في الخارج، سأنتظر أن يناديني صوتك.
لم أردّ عليه، فأكمل مبتسماً:
- اذن، اقرأ عليّ شيئاً من نصوصكَ الجديدة.
كان يتصلُ بي في نهاية كل أسبوع.
- أأستطيع زيارتك؟!
من شارع العليا الرئيس، دخلت زقاقاً فرعياً، أوقفتُ سيارتي أمام العمارة التي يسكنها مروان.
صعدت الأدوار الثلاثة للبناية التي تخلو من مصعد.
عندما فتحَ باب غرفته، كان لا يزال يخلع ملابسه، وقد رمى كتب الجامعة على السرير.
حيّاني ببشاشة، وقبل أن يتوجه لأدوات الطبخ في ركن الغرفة، ضغط زر آلة التسجيل.
- سأعدّ لك كوباً معتبراً من الشاي.
وأكمل:
- لقد عدتُ قبل دقائق من يوم حافل بالكلية.
فرقع بإصبع يده اليمنى، واستدار باتجاهي.
- عند دخولي، اتصلت بك امرأة اسمها منيرة. تقول: إنها تريدك في أمر مهم، وسوف تتصل بكَ مرة أخرى.
ابتسم وهو يهزّ رأسه.
- يا لحلاوة صوتها.
وأضاف غامزاً بعينه:
- هل هي الشرفة المطلّة على القمر؟! اعترفْ أيها الغامض.
لم أكن قد عملتُ في المستشفى عندما تعرّفتُ إلى منيرة، كنت لا أزال محرراً مسائياً في المجلة.
في ذلك المساء، طلبت من مأمور السنترال، الاّ يحوّل لي أي مكالمة قبل أن يعرف هوية المتصل، وأن يسألني إذا كنتُ راغباً في الحديث معه.
كانت المجلةُ قد نشرتْ تحقيقاً تحت عنوان: "أيتها المرأة من تكونين؟!" واستضافتْ في هذا التحقيق عدداً من المثقفات وأستاذات الجامعة. كان السؤال الرئيس: لماذا لا تكون هناك بطاقاتُ هوية للنساء السعوديات تحمل صورهن، تماماً مثل الرجال؟!
كانت المجلة وقتها في عزّ توزيعها، كان معظم رؤساء الأقسام فيها من المثقفين، الذين تناثروا بعد ذلك في رياح الطرد والاختناق.
أثار التحقيقُ استنكار المحافظين الذين هاجموا خط المجلة وجهودها التجديدية، والذين كانوا يفترضون أن من ينتقد القرارَ الصادر بحرمان المرأة من ركوب "الليموزين" من دون محرم، هو خارج عن الملة. 
قال لي مأمور السنترال:
- هناك امرأة تريدك شخصياً في مسألة مهمة.
حوّل المكالمة لي.
ابتدأتْ المكالمة بالسلام، فرددتُ عليها:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- أعتذرُ عن الإزعاج، لكني باختصار أحبُ أن أوضّح لك بصفتي امرأة ملتزمة من نساء هذا البلد، أن هناك عدداً من القضايا التي يمكن أن تكون أكثر أهمية من مسألة وضع الصورة على بطاقاتنا.
قلتُ لها بصوت اعتيادي:
- لم لا تكتبين وجهة نظرك، وترسلينها إلى المجلة؟!
- أنا لا أجيد الكتابة.
- وهل تريدين أن أكتبَ نيابة عنكِ؟!
- لا، أريدكَ ان تستمع اليّ فقط.
- ها أنا أسمعكِ.
- أنتم تطرحون قضايا حادة في مجلتكم، وهذا ليس من مصلحتكم.
- هذه ليستْ آراءنا.. إنها آراؤكن.
واستطردتُ:
- أقصد أنها آراء شريحة منكن.
- أنا لا يهمني إن كان هذا رأيهن، أو رأي المجلة، لكن من الأجدر طرح قضايا أهم، كما سبق وقلت لك: هناك مثلاً قضية تعليم المرأة، تخلف المناهج، هناك ظاهرة السموم الوافدة عبر المجلات الصقيلة التي تملأ المكتبات باسم النساء وقضايا النساء.
خلعتُ نظارتي، ووضعتُ القلمَ على الورقة التي أمامي.
- أنا أتفق معك، لكن لدينا قائمة بالموضوعات التي لا يستطيع أحد طرحها.
- أعرف ذلك، أنتم لا تستطيعون طرح موضوع أندية الفتيات الخاصة، ولا مشاركة المرأة في التلفزيون والمسرح أو تعليم الاطفال المختلط.
- أنت تعرفين أشياء كثيرة.
سمعتُها تأخذ نفساً عميقاً، ثم تكمل.
- كل ذلك، لأن المرأة هي لب الموضوع، كأنها بعبع يقضُّ كراسيكم، صدقني، سيُوقفُ نشر الردود في قضية البطاقات قريباً.
- أعرف ذلك.
- وتعرف أيضاً أن موضوعاً مثل الفوارق الطبقيّة في المجتمع، الذي تنشرون عنه كثيراً من المقالات لا يجدُ آذاناً صاغية.
- هذه مشكلتنا نحن.
- معك حق، أنا مثلاًً أعيش صراعاً لا حدَّ له لكي يخلع والدي وإخواني هذا الثوب البالي عن أجسادهم، اخترتُ شريك حياتي بالطريقة التي تناسبني كامرأة مسلمة، طلبني على شرع الله ورسوله، فرفضه أهلي؛ لمجرد أنهم ينتمون لشجرة اسمها القبيلة. أما هو، فلا يعرف مثل كثيرين غيره، سوى أنه من صلب نبينا آدم عليه السلام.
- قضيتكِ عادلة.
- لذلك أغلقتُ بابي أمام كل الخاطبين الذين انفرطوا من مسبحة الشجرة. واخترتُ الجامعة زوجاً لي، أنهيت البكالوريوس، وأحضّر الآن دراساتي العليا.
قاطعتُها:
- في أي مجال يا أخت...
- أختكَ منيرة.
وأكملتُ:
- في أي مجال يا أخت منيرة تحضّرين دراساتك العليا؟‍
- في التعليم الخاص، تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، لقد تخرّجتُ في كلية التربية، واستثارني هذا المجال كثيراً.
فكرتُ قبل أن أسألها:
- وهل تقرأين صفحات الأطفال في المجلة؟‍
- طبعاً، وأعرف أنك المسؤول عنها، ولفت نظري اهتمامك بإبراز هذه الشريحة الغالية من أطفالنا، ولذلك اخترتكَ شخصياً، لأنقل لك رأيي في قضية البطاقات.
حاولتُ أن أغير الموضوع:
- دعينا منه، فيكاد رأسُ المجلة ينفجر من دوي رصاصاته.
وضعتُ النظارة، وقرّبتُ قلمي إلى أعلى الورقة.
- كيف أستطيع الإستفادة من تجاربكِ كمتخصصة في هذا المجال.
- لم أفهم.
- أنا أحتاجُ افكاراً مهنية أستطيع بواسطتها خدمة ذوي الاحتياجات الخاصة.
صارتْ العلاقة الهاتفية بيننا مستمرة. تتصلُ نهايةَ كل أسبوع، لتناقش معي الموضوعات المطروحة في الصفحات، كنت أستفيدُ من ملاحظاتها لأتخلّص من السلبيات، وأضيفُ جوانب إيجابية.
كانت روحاً خفيّة للصفحات. حين يجتمعُ الأطفال المحررون في المجلة، صباحات الخميس، تتصل بهم، وتديرُ معهم حوارات ثرية.
كنتُ أنجز الأعمال، وأعود لأجد سماعة الهاتف مع طفل آخر.
أصبحتْ منيرة امرأة الصفحات، إذا كنت أنا رَجُلُها، بين منيرة وبيني، كان الأطفال يَنْمونَ أغصاناً على أكتاف غيمتنا.
وحين استلّ رئيس تحرير المجلة، الصفحات من غمد قلبي، لم تتركني منيرة أبارز سيوف الخيبة. استمرتْ تتصل بي، تنقل لي أخبار الأطفال الذين لم تنقطع عن هواتف بيوتهم.
- فاتن بدأتْ تغطي وجهها، وصوت ناصر أخذ يتضخّم. عدنان صار يشعر بالحرج عندما يتحدث معي، إنتصار نجحتْ للصف الثالث متوسط.
- وما أخبار رسالتِك؟!
- في نهاية هذه السنة، سأحصل على الماجستير.
- وستتزوجين الدكتوراه أيضاً؟!
- بل سأتزوج دكتوراً.
شهقتُ من الفرح، ثم سألتُها مبتسماً:
- قبيلي؟‍
- يبدو أن الدال التي سبقت اسمه، أسدلتْ ستار هذا السؤال عندما خطبني من أهلي.
ضحكتْ، ثم أكملتْ:
- ربما خافوا أن أموتَ عانساً.
- إذن ليس قبيلياً؟
صمتتْ قليلاً، ثم قالت بحياء:
- إنه نفسُ الشخص الذي خطبني أول مرة، بعد أن رفضه أهلي، سافر إلى بريطانيا، حصل على الماجستير والدكتوراة خلال ست سنوات. بعد عودته، طرقَ بابنا، للمرة الثانية، مرتدياً لقبه القديم، لن أكتمك سراً، إذا قلتُ لك إنه هو الذي فتح كل الآفاق التي كانت مغلقة أمام عينيّ. زرع في تربتي حبَّ الناس والأطفال والمعرفة. وإن لم يكن هذا الرجل شريكاً لحياتي، فلن يستطيع أحد أن يضيء نوافذي، قلت هو، وكان هو.
لم يكن مزاجي مهيأ لتقبل المزاح، قلتُ ببرود:
- دعكَ من امرأة الشرفة يا مروان، واصنع لي الشاي، أرجوك.
كانت منيرة قد اتصلتْ بي صباح هذا اليوم بالمستشفى، كان صوتي في أثناء المكالمة مخنوقاً.
حاولتْ أن تعرف ما بي.
- لا شئ، أنا متضايق قليلاً.
- سأتصل بك لاحقاً.
- ربما أزور مروان في المساء، اتصلي بي هناك.
وأعطيتها رقم هاتفه.
أزحتُ كتب مروان، وتمددتُ على سريره، سانداً ظهري على الجدار، أشعلتُ سيجارة وصرتُ أحدّقٌ في بوستر معلق على الجدار المقابل، لامرأة تنامُ وحيدةً على سرير وردي متّسع، عارية، تتكوّمُ حول نفسها مثل جنين في بطن أمه. وأسفل الصورة عبارة انجليزية تقول: "هيه. أنت"، وهو عنوان اغنية شهيرة للمطرب الإيرلندي "بوب قيلدوف".
عاد مروان يحمل كوبين من الشاي، ناولني كوباً، ثم جلس على الأرض واضعاً كوبه إلى جانبه. سألني، وهو يشعل سيجارة من علبتي.
- كيف كآبتك؟‍
كنت أحسُّ أن عينيَّ معصوبتان ببارود هائج، وأنني لو فتحتهما بجرأة، فسينفجرُ المشهد، وستتساقط الكوابيس على جبيني.
أجبته، متنهداً:
- أصبحنا يا مروان مظاريف يسخرُ البريدُ من طوابعها، تحذفُنا عاصمةٌ إلى أخرى، ونرجع ثانية لصناديقنا التي صاد القناصون حمامها الزاجلَ، وتبرّزوا على أقفالها.
- لم أعهدكَ منكسراً كما أنت الآن.
ارتشفتُ بعضاً من الشاي، وصرتُ أحدّقُ مرةً أخرى في البوستر.
رنّ الهاتف ففزَّ قلبي.
أجاب مروان:
- أهلا يا منيرة.
وأعطاني السماعة.
كان صوتها أكثر اختناقاً من صوتي عندما تحدثنا صباحاً.
- ما بك؟!
- البنات خرجوا في مظاهرة.
اهتاجَ بارودُ عيني، فنهضتُ صارخاً:
- مظاهرة؟!
لملمَ الحمامُ دَمهُ، ومن بين حطام الصناديق، التقطَ المظاريفَ وطارَ في غمام الشك.
- اتفقتْ أربعون بنتاً وامرأة، أن يجتمعن عصر اليوم أمام مركز "فال" بشارع "صلاح الدين"، وقُدنَ من هناك سيارات أزواجهن واخوانهن باتجاه شارع العروبة، قبضتْ الشرطةُ عليهن، وهن الآن موقوفات رهن التحقيق في مركز شرطة العليا.
صمتتْ لحظة، فكأن صمتها مخالب تعصر جلدي داخل لحم عنقي، وأنا أتوسلُ لحنجرتي أن تفرّ من مجزرة الكلام.
- ماذا بوسعنا أن نفعل؟!
- لا شيء الآن، لا شيء يا منيرة.
- هل سيعتقلونهن؟
- لا أدري.
- سيعتبرونه عملاً سياسياً، أو مظاهرة احتجاج منظمة.
- من الأفضل ألاّ نتحدث في الأمر.
- أنا مرعوبة فبعضهن صديقات حميمات لي.
- اتصلي بي فيما بعد.
وضعتُ سماعة الهاتف، وخرجتُ.
رافقني مروان، من دون أن تنبس شفتاه بكلمة.
بذاكرة مشوشة، توجهتُ إلى مركز شرطة العليا الواقع في الأحياء الداخلية لشارع "العروبة".
كان مقود سيارتي يتحول أفعى تكبّلُ رسغيّ، وبين كل لحظة وأخرى، تنفث السم في وجهي، وأنا عاجز عن أن عن أمسح ترياقها.
حول المركز، تناثرتْ سيارات أمن وسيارات مدنية قليلة، داخل كل منها شخص، أو شخصان، أو ثلاثة.
توقفتُ بسيارتي أمام بوابة المركز، فنهرني العسكري.
- امشِ.
تفحصتُ وجوه المدنيين، فوجدتُ بعضها يحمل قلقاً، وبعضها الآخر يحمل تحفّز المخبرين الذين يرصدون كل من يجيء.
أشار مروان أن نترك المكان قائلاً:
- يبدو أن الوضعَ متوتر جداً.
بمرآتي العاكسة، رأيتُ عدداً من الرجال، يترجّلون من سيارة "جي.ام.سي" حمراء ويدخلون المركز.
أنزلتُ مروان أمام بوابة العمارة.
قال، وهو يترجّل من سيارتي:
- غدا صباحاً، سنعرف كل شيء.
وتردد قبل أن يقول:
- لدي "فاليوم". أتريد أن أصعد وأحضر لك حبتين؟!
هززت رأسي نفياً.
- عندما تتصلْ منيرة، أخبرها أن الوضع هادئ، واطلب منها أن تتصلَ بي غداً صباحاً.
ودّعته، ومضيت.
ضغطتُ جرس منزل أختي "هيلة"، وطلبتُ منها عبر هاتف الباب الخارجي أن تستدعي فاطمة وأطفالي.
- ألن تدخل؟! لقد أبقينا لك عشاءك.
- لا أشتهي شيئاً، الوقت متأخر.
ناولني عثمان زوج أختي هزيع النائم، وكانت زوجتي تجرّ هاجر، وهي تترنح مسبلةً جفنيها.
لم أبادرْ فاطمة بأي حديث، لذلك لم تخرج من بين شفتيها، طيلة الطريق إلى بيتنا، كلمة واحدة.
وضعتُ مذياعي، بجانب فراشي الذي مددته في ركن غرفة الضيوف، حيث رفوف مكتبتي.
في آخر كل ليلة، تتنفس أبوابُ حدائقي التي اغلقها طوال النهار. ووحيداً أغطس في نسيج العتق. ولكيلا أزعج  فاطمة بصوت المذياع، تعودتُ في بعض الليالي، أن أنام وحيداً هنا.
تنقلت بين محطات مونت كارلو، وصوت أمريكا، ولندن، حيث الأخبار لا تزال تركز في جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش في دول اوروبا الغربية والشرق الأوسط.
أطفأتُ النور، وحاولت جاهداً أن أنام.
- كم محققاً سيكون هناك؟! هل سَيُجِبْنَ إجابات موحّدة؟!
حين تكونُ في مواجهة المحقق، فإنه يجتهد في استخدام كل السبل لينتزع الكلام من سقيفة خوفك.
جاءني محقق في مكتبي، عندما كنت أعمل، في أوائل الثمانينيات، محرراً ثقافياً في جريدة يومية. طلبَ مني بلطف أن أرافقه خارج المكتب، توقعته قارئاً يريد أن يفضي اليّ بمشكلة خاصة. على رصيف الجريدة الخارجي، عرّفني بنفسه وطلب مني أن أزوره غداً صباحاً في المكتب.
سألته:
- خيراً إن شاء الله؟!
- أبداً، الموضوع في منتهى البساطة، لا تقلق لن آخذ من وقتك كثيراً.
ليلتها،لم أنمْ، ظللت يقظاً حتى الصباح، أفكر.
- كم وقتاً سيأخذ مني؟! ساعةً، يوماً، سنةً، أم دهراً؟!
شعرتُ برهبة ألاّ أعود مرةً أخرى لهذه الجدران التي ألفتْني.
أربعة تحيط بي، تشاركني قراءاتي بصوتها الإسمنتي. وتمسك الورقة التي أستهلّ بها الكتابة. تصفقُ حين أغني السامري، وتنوحُ حين يغمرني الحزن، وأبكي. وعندما أدخل بينها بعد غياب، تفز، فتتسع لي، أصير أركض من جدار إلى جدار، وبأصابعي، أتأكد أنني عدتُ.
- يا جدراني التي توقد الملح لولائم غبطتي.
بدأتُ أفتش في مكتبي وأوراقي عن كل ما قد يعرضني للمساءلة، جمعتها في صندوق كرتوني وحملتها إلى غرفة والدتي، التي كانت قد نهضتْ لصلاة الفجر.
ارتبكتُ، سألتْني والبحّةُ تعرجُ على سلالم صوتها:
- ما هذا؟!
تلعثمتُ قبل أن أرد.
- كتب وأوراق خاصة، أريد أن أخفيها في خزانة ملابسك.
مرّ كتفها إلى جانب كتفي، وبعد أن تعدّاني، توقفت.
- لن يهديء سرَّك،َ سوى امرأة تدفيء بها مخدتك.
- لا تخافي عليّ يا أمي.
أعددتُ كوباً من القهوة، وقبل أن أشربه، استحممت، حلقتُ ذقني، ولبستُ نصفَ ثيابي.
كان يوماً شتائياً، يدغدغ ضوؤه حياضَ الزجاج المظلم، فيتماطل النهار في هتكِ النوم المستبد بالستائر.
تلحفتُ بغطائي الصوفي، وتمددت على فراشي، أخذتُ أحتسي قهوتي، وأفكر بالأسئلة التي قد لا أفرّ منها.
على تنور مترهل بالفجيعة، نعست، وكمن يلسعه صراخُ الخنجر، أفقتُ على دقات أصابع أمي على كتفي.
- الساعة العاشرة يا بني.
ركضتُ إلى بقية ملابسي، وخرجت.”

 

* كُتبتْ الرواية عام 1992 م ، و صدرت عن المركز الثقافي العربي ببيروت ، عام 2011 م، حصلت على  جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب2012
سعد الدوسري كاتب صحفي و و    

الرياض– نوفمبر 90 (مقتطف من )