6 ديسمبر 2010

كونشيرتو القدس | ادونيس (قصيدة النثر العربية)

1.
وتر
في زاويةٍ،
في أقصى أحشائي،
غزالةٌ تبكي.
لهذا، كثيراً، رجوتُ الملحَ أن ينتقدَ الخبز. غير أنه لم يستجبْ.
وسمعت من يسألني، خِفيةً:
لماذا يتأخر الموت، عندنا،
ويظلّ تقدّم الحياة موتاً آخر؟
وكيف يُسْجنُ رأسٌ في قَبْوِ كلماتٍ
ابتكرَها هو نفسه؟
وما تلك الكلمات التي تحمل أفكاراً
تُفرغُ الرأسَ من الفِكر؟
*
إنها بومةُ السُّؤال
+تظلُّ جاثمةً بين شفتيّ!
*
أعرفُ اسمكَ، أيّها العَصْرُ، أيّها الشيخُ - الطِّفل الراكض في شوارع القدس. أُمِرْتُ أن أقدّمَ لك عصيرَ اليورانيوم. وسوف أقول للقمر أن يوقّع على
دفتركَ، وللشمس أن تؤرّخ لهذا التوقيع.
وانظرْ: ها هي جدرانٌ تريقُ حليبَ أحزانها
على الأرضِ، فَرحاً بكَ.
وتعرف أنتَ، أيّها الطفلُ - الشيخ، أيها العصر،
أنّ النَّمل أكثر علوّاً من الكواكب:
قدر النّملَ أن يتحدّث مع سليمان،
ولم تقدر الكواكب.
ربما، لهذا يتنبّأُ النمل:
الأحزمة، الأقنعة، الخنادق، الجَرّافات،
القنابل، الصواريخ، الحقائب، الدواليب، الأدمغة الإلكترونية:
تلك هيَ الأيامُ المقبلة.
ربما لهذا،
تتحوّل السماء الى ثُقْبٍ سرّيّ في سَقْف التاريخ.
2.
أَهْلاً بامرئ القيس!
هوذا في طريقه الى بلاد الروم مروراً ببيت المقدس، قبل أن يضع قدميه على عتبتهِ، قرأ:
لِلدّم الذي أُريق على ضفاف المتوسط، منذ
البدايات، تاريخ مُدنَّس. لهذا التاريخ الأرضي
موجزٌ سماويٌ اسمه القدس: الناس فيها
اثنان
ميّتٌ يُقيم في السَّفر، وهو مكانٌ متحرّك
وحيٌّ يقيم في القَبر، وهو مكان ثابت.
وكلاهما يُقيم خارج نفسه.
*
كان الليلُ والنهار في صراعٍ يحاول كِلاهما أن يخنقَ الآخر.
وكان الوقت يحوّل المشهد الى شريطٍ وثائقيّ.
غيرَ أنَّ امرأَ القيس، قال مودّعاً:
الكونُ هنا كمثل وردةٍ
بعضهم يريدها عطراً للبشر جميعاً،
وبعضهم يريدها بستاناً له وحده.
برهانٌ آخر:
في بدء العالم، كانت الكلمة،
في بدء الكلمة، كانت الدماء.
+هل تَعبتَ، يا امرأَ القيس، من السّير في تلك الشوارع التي
شَقَّها الغيب؟
ما أَبرعَها في فَنّ الاقتفاء،
ما أَنْبَهَ جُدْرانَها في التنصّت.
كلّما حاولتَ أن تعانق امرأةً، يسألك حارسٌ:
هل استأذَنْت السماء؟
بلى، كلّ ثَمرٍ مُرٌّ في هذه الشوارع.
مع ذلك، ها أنتَ تتابع سيركَ أكثرَ إلحاحاً مِن
ذَكَر نَمْلٍ جائعٍ،
صانِعاً من خطواتكَ أوتاراً لموسيقى راقصة،
محفوفاً بقَصبِ أحلامٍ تنفر من ذكورتها بويضاتُ
الظنّ،
ظَنُّكَ أَنّ سريركَ ليلٌ آخر،
وثمّةَ ما يوشوشكَ:
يكذب اللّيل هو كذلك، ولو أَنّه صديق الشمس الأكثرُ وفاءً.
غيرَ أنّكَ تعوّدت أن تبدأ دائماً من الصّفر،
لأنك تعوّدتَ أن تَتَنشَّقَ عِطرَ اللانهايات.
كانت جدّتكَ، تلك السماءُ العُكاظيّةُ، تَضَعُ في جيوب
أبنائها عملةً ليست إلا نَردْاً،
وكانت تُوصيهم أن يطرحوها ليلاً، بين رَمْلٍ النجوم، إن كانوا يريدون أن يتماهوا مع أحلامهم.
ووفقاً لوصاياها،
كانوا ينثرون قصائدهم على الرمل،
تبرّكاً واحتفاءً.
أنتَ الآن تحت سماءٍ أخرى. حولكَ جدرانٌ تنزفُ دماً. رؤوسٌ شِبْهُ مقطوعة لا تتوقف عن الكلام. والحياة شيخةٌ لها شكلُ قنديلٍ يكاد أن ينطفئ، تحاول
الريح أن تشعله.
اطمئني، أيتها الريح،
الأشراك التي تنصبينها تخبئ وراءها غاباتٍ من النار.
وثمة ينابيع من الدم تسيلُ من ثقب إِبْرةٍ تتدلّى من يد السماء.
+- كلماتٌ حرابٌ وأسنّةٌ
والبصير هو دائماً فَرِيستُها.
- كلا، لن أَزِنَ حياتي إلا بما لا وَزْنَ له،
وأقصد الضوء.
- بيديكَ تنقض عروشكَ. عروشٌ تبنيها على الموج. مَوْجٌ: قَصَبٌ غناءٍ بين أثينا وبيروت والاسكندرية.
قصَبُ ملائكةٍ آثروا أن ينقلبوا الى عُشّاقٍ، وأن يكون المِسْكُ العربيّ فضاءً لِتشرّدهم بين الحجاز والقدس.
- سماؤك نقشٌ لغويّ. أرضكَ حَمّالةُ أوهام. كلّما شهقَت كلمةٌ في هذا النقش، تصطكّ أسنان التاريخ، فيما تنحدرُ الرؤوس كمثل كُراتٍ دون اتجاه، وفيما تبدو النجوم كمثل حُزَم من القَشّ.
- تاريخٌ حليبٌ يفرّ من أثداء أمّهاتِنا لكي يُرٍضِعَ القمر وبقيّةَ الكواكب.
- حين تهجم العاصفة لا تتسلّح إلا بأجسامنا. تملأُ أيامَنا بغيومٍ سوداء لا يستطيع، أحياناً، أن يقرأها حتى الضوء.
- هكذا سنظلّ نصنعُ النعوشَ قبل الأوان. ندهنها بِعطرٍ مما قَبل التكوين. ونقطَعُ باسمها وريدَ الأرض لكي نُغذِّيَ شَرَيان الغيب.
- أقرأْ بُرْجَكَ، أيها التاريخ، وسوف ترى كيف تنقلبُ التوهمات الى أبراجٍ من الحقائق.
- الى سرير الفلك، يَسْتَسْلم جسم التاريخ. وها هو يفكّ أزراره.
3.
تِسَارُع
الريح تقرأ الوَرْدَ
والعطر يكتبه.
III
دَخلت العاشقة حديقة بيتها في القدس حيث يُقيم حبّها.
الأزهار كلها تحوّلت الى شِباكٍ تطوّق خطواتِها.
ضحكت وقالَت:
هَلْ عليّ، إذاً، أن أخيطَ من جديدٍ ثوباً آخر لكل زَهْرة؟
أمسِ، حين التقيتُها، همسَ الليل في أذنيَّ:
العطر ابْنٌ للوردة،
لكنه يُولد شاباً.
*
(توتّر. مقتل. تفجير. قَبض. إسعاف. مطافئ. ضحايا. إدانات. منع. تمرّد. خَرْق. استحقاق. معتقل. اعتقال. سجون. هدم. احتلال)،
قلتُ لخيالي: تجرّأ. ضع يديك على كتفي القدس.
وقلت للقدس:
لماذا أنا المقبل إليكِ، لا أعرف أن أسيرَ إلا الى الوراء؟
*
(إرهاب. خطف. جهة مجهولة. تشدّد. اتّهام. نَفْي. نَعْي. شَرْع. فساد. كُفّار. تزوير. حملة. عنف. قضاء. قاعدة. خطَر. صراع. هيمنة. ملاَذ. غزو. اكتساح.)
الطريقُ خيط عنكبوت. وثمّةَ كونٌ بصيرٌ يزدردهُ كونٌ أعمى. المدنُ احتضارٌ، والزمن هدهدٌ عابر.
الى متى ستظلّين، أيتها السماء نائمة بين يدي أرضٍ حمراء؟
*
(صواريخ. عصابات. طوائف. طقوس. هجمات. ألغام. تجارة. اقتتال مذهبي. قَصف. انشقاق. تهدئة. سيادة. مُرابَحة. أشلاء. جثث. معارك. حلفاء. أعداء. مُسلّحون. اغتيالات. قبائل.)،
طِفْلٌ له هيئةٌ النّعش تحمله أيْدٍ غيرُ مرئية، في اتجاهٍ
بلا اتّجاه. قولوا للأبديّ:
فِرْقتكَ التي تدير المسرح
مجبولةٌ من طينٍ اسمه القَتْل،
وتلبس الفرقة نَسيجاً اسمه الهواء.
*
(نفط. يورانيوم. اختراقٌ للصوت. ذخائر. فضائح. تحقيق. تهريب. قوانين. يمين. يسار. مفاوضات. خيانة. تعذيب. نزوح... إلخ)،
«في القمر شِقٌّ إيروسيٌّ تحفره السياسة»، قال عالِمٌ فَلكيّ،
«في الأرض ثقوبٌ تتشبّه بثقوب الجسم الإنسانيّ»، قال عالِمٌ في الطبيعة،
بينهما، كان الجُودِيُّ الجبَلُ يتحوّل الى وشاحٍ أحمرَ يلفّ السفينة. وكان كاحِلُ الهواء يُموسِقُ رقصه على إيقاع غبارٍ ذَرّيّ.
خيوطٌ وأسلاكٌ تنسج عباءاتٍ إلكترونّيةً
لمسافرين يجهلون المكانَ،
يجهلهم المكان.
أكداسُ كتبٍ تَرزح تحتَها رؤوسٌ لحِججٍ واهيةٍ خَطَّها قلمُ المعجزة.
لم أقل ذلك لأي ملاكٍ. قلته لِشهابٍ أخرس، لم يكد يشتعلً حتى انطفأ.
هناك من تلطّخ، فانقلب خارجه الى داخل. هناك من قرأ فأصابته عدوى الجهل بكل شيء. هناك ثالثٌ لا رابعَ له إلا ظِلّه.
الرُّعب نفسُه نغمٌ في قيثار الشمس.
+«لم يُستَشْهد عبدٌ قطُّ، في بَرٍّ أو بَحْرٍ
إلا وهو يَسمع أذَان مؤذّني
بيت المقدس من السماء».
(عن: كعب)
*
«صخرة بيت المقدس من صخور الجنة».
(ابن عباس)
*
«صخرة بيت المقدس على نَخْلةٍ،
والنخلة على نَهْرٍ من أنهار الجنّة.
تحت النخلة آسيا امرأة فرعون،
ومريم ابنة عمران،
تنظمان سُموطَ أهل الجنة الى يوم القيامة».
(عن: عُبادَة بن الصامت)
*
ماذا نكتب، إذاً، وكيف؟
- كتابة الواقع استنساخ. انفصالٌ آخر عن الواقع، وعن الكتابة.
- إن لم نكتب الممكن، فكأنّنا لا نكتب.
- أهناك معنى لما لا يدخلُ في اللغة؟
- وما يدخلُ في اللغة، أليس دخولاً في صحراء؟
- لماذا تكون أحزانُ العقل قبوراً لرغبات الجسد؟
- لا نكتب الشيء حقّاً إلا إذا رأيناه
بطريقةٍ يبدو فيها كأنه هو نفسه يرانا.
- كتابةٌ لا هُوَّة فيها، لا هويّةَ لها.
(نهاية الحركة الأولى من كونشيرتو القدس، بيروت - باريس، 2010)
__________________________________

كونشيرتو القدس | ادونيس (قصيدة النثر العربية)

نشرت في جريدة الحياة الخميس, 08 يوليو 2010 | المسيرة الالكتروني
+ مختارات من هذا المقطع