18 يونيو 2010

الملاّجــة: شــرفات الأعالــي | احمد الملا

إلى مهرجان السنديان 
الثالــث عــشر 
عنايةٌ حاذقة للطبيعة، انتخبتني 
على الأرجح، 
ليست صدفةً هبطتُ 
ولا فجأة صار لي أهلٌ وعائلة. 
ألمسُ هذه الهبة،
لأني أمسيتُ أرى في حلكة الليل، 
ولم تعد ركبتاي تتعثران ببعضهما. 
ربما في وضح البعد تشكني شوكة الغياب، 
أو في الغامضِ 
أحسُّ برجفة تسري إلى عنقي 
كهمسةٍ باردة في شمس آب. 
قبل هذا 
لم تستبد بي أطياف ألمح منها في كل عابر 
ولم أتوهم قبلها منادياً في كل صوت. 
إذن 
لم تكن الشجرة 
حتى لو خلعت لحاءها الأحمر، 
ولا جلمود صخر حط تمثالا 
دفعة واحدة على الأرض. 
ليس الشعر الشفيف وهو يطلع الدرج، 
لا منحدرات تحفها الجبال تارة 
ولا مهاوي الوديان في ألوانها تارة أخرى. 
قل هي الملاجه، 
ممزوجة بأناسها. 
لذاك كله 
قل هو السحر. 
فليلتو الدرب، 
نازلا كقذيفة منجنيق 
أو شاهقا كطلقة، 
جئنا قاصدين وناقصين، 
ننتقي ما نريد. 
ألم نقل مرة: 
«إن قدما لا تنتقي خطوها لا يحق لها أن تفاخر بالطريق». 
هنا تلمسنا شقوة أخرى للمعرفة 
هنا عشب تمسّح بكعوبنا الواهنة 
هنا ما سند السقف لتعبر هاماتنا 
هنا ما لف رؤوسنا من غار وأكاليل. 
قطفتُ مزاج التين، 
عصرتُ ثالث العنب، 
وتهجيتُ حكمة الزيتون. 
صخر الصمت تأملني 
وأقرأتني الحجارةُ مهجةَ الكلام. 
قبل الملاجة تمنيتُ الغصن 
وعلى أول أحجارها جاءت الغابة بأسرها وتبنتني، 
ناولتني ما لم تنله يدي، 
شبهتني مرة بالورد، 
شبهتني بكل ما تمنيت، 
ولما انتشيت نزعت التشبيه، 
سقتني محوه، وسرت وحدي. 
قرعتُ الكأس واطئا فتخففت روحي، 
سبقتني القبلة أينما أدرت وجهي، 
وقبلت أصابع صافحت ولوحت. 
وقتها فقط غادرتني أسراب غربان مندسة في طيات أيامي، 
ونسيت ما رافق العمر من نعيقها. 
أخطأت مرارا 
وكأن الشقي في جبتي متيقن 
أنه في مسيل الغفران. 
ورويدا رويدا 
تقبلتْ المته جهالتي 
وأشفقتْ 
إلى أن أصبحتْ زهرات الفم. 
نادانا سنديان عتيق 
ودلّى حباله لنصعدَ 
غمز للكأس حتى ابيضّت في العتمة 
ودلّ الندامى إلى العرش. 
أجسادٌ أطلقتْ أرواحها للرقصة، 
وجسّتْ معنى القفزة الأولى، 
لعُزّلٍ تخلوا دفعة واحدة 
عن أسلحتهم الهشة، 
وسمعتْ الجبالُ ضجيج تكسرها. 
طيّرنا خيالاتٍ جامحةٍ 
ألبسنا تماثيلَ تحرس النبعة الكبرى 
وترعى انفراجة الوادي المنجب 
لأشجار تصطفّ بحميّة النضال. 
الملاجه: 
قلعة بلا أسوار، 
قلعة بلا متاريس، 
قلعة دون بوابات، 
قلعة دون خنادق 
ولا أسنة تسيجها. 
قلعة... بلا قلعة في الأصل، 
حصنها حبٌ مجرد وشاهق، 
يستسلم أمامه الغزاة 
ويدخلون طائعين، 
كلٌّ طيره في عنقه. 
ألم تمر خجلا ومطرقا من دعوات التين والشيوخ والعجائز والعنب يدعونك بلا منّة؟ 
ألم تر الجبل يميل مع الشمس ليظلك؟ 
حط البدر مرارا وساهم بحصته من الكهرباء، 
مثل كل أم سهرتْ ليال تعد الأطباق، تنقع البقول وتطحن الذرة على أغنيات النازلين، 
كما الصاحب الذي قطر الراح بين قمرين. 
كل إصبع في الملاجة مست البصل في غداء أوعشاء، 
كل كف روت القهوة وعتّقت الشاي، 
كل كتف رفعت الماء من النبع الكريم، 
كل يدٍ فركت البرغل، 
كل راحةٍ حملتْ عنا، 
كل قلبٍ تلفتْ في الغياب، 
كل ما ذاقتْه شفاهنا وتنفسناه أوشربناه: 
صار نسيج جسدنا الواحد 
وامتزاج روح. 
لن نفرطَ ولن نكنسَ غرف القلب التي ألحقنا بها شرفات على إطلالة واحدة: 
الملاجه. 
أبو مال السنديان: بين كرمته وما اصطفاه من أحجار، أحجار كريمة، لو مسَّها. 
يطوي بين غلافيه صفو الشعر، عيناه قالتا وثغره لم يتزحزح عن الابتسام. 
علي سليمان: نفخ الروح في الحجر ونحت استدارت الفلك، 
يا أرجوحة السماء يا من علمني مقام الطير. 
أم عدنان: مظلة البيت إن طلبت الجدران النزول إلى السهل. 
شرفة غسان: اقتصد المنزل على غرف ذات أبواب، شرفته أباح لها، فامتدت مثل غيمة هائمة تلف مشارف الوديان وتعود. 
غسان: مثله أخ حسبناه صلبا واكتشفنا تلويحة كفه الصريحة ملأى بحنان ـ يا عماد بل ـ يعول عليه. 
عصام ليس طبيبا: شفانا دواؤه من حيث لا يحتسب، فبماذا سندفع صهد الحنين يا صديقي؟ 
غاده: برهة وتسطع الأمهات في ثيابنا. 
وحيد: ذو الزرقة المجلجلة، كيف صعد البحر هامة الجبل؟ 
رشا: جناحها الأبيض الذي أرتنا إياه ليوم وليلة، أكان جبيرة أم حرزا، وهل حررته ليتسنى لنا الطيران؟ 
يوسف: خشبه الراقص الخجول بين رفوف المكتبة، لم يكن نايا للرعاة بل صوته حين استوى وجن الليل. 
أبو وحيد: من دكانه، من دكته الشريفة حطت أرواح علها تستريح. خبأ للعابرين ـ حين سمع خطوهم ـ ما يشتهون، قبل أن ينطق بهم العطش. 
حلا عمران: شجرة تمشي. 
مي اسكاف: ريح تهب الرقص. 
ناصر: مرآتنا التي رأينا فيها ترتيلنا على وقع رحالة سامي حواط. 
عايده: رنة الذهب. 
عماد صبري: ربيب الحروف، قديس التجديف ذو الجديلة، ينتعل جمرة في قدمه اليمنى ولا يظمأ. 
نهله: حدب إلهة على السفح. 
رويدا: للصمت يد تدون الغيم. 
أشواق: خبيئة المطر. 
حسان: الزاهد وظله مدد. 
فهد: عاصره وحامله صاعدا، لك في ذلك وجد كل من ارتوى. 
علي حسن: ضوء طمأن الظلال في أوكارها. 
أبو حازم: ابتسامة تحوم على المشهد. 
زهير: عريشة السكينة. 
مدين وعلي ومحمد: رقة الطاولات الطيبات صباح مساء. 
الصبايا والفتيان: بلا حمائم ولا رسائل، يرف ساطعا غرامهم في الفضاء، أحلام بلا أعشاش. 
أطفال الملاجه: بأسماء كنزتها في الفؤاد، وسموا أحجارا، حملتني إلى شهقة النهر. 
الملاجه: يتّمني غيابي. 
كنا حبات عنب، رصنا الشريف الرضي في عنقود، وحطه بتؤدة على ضريح محمد عمران، تقدمة لكل ذي جناح. 
هكذا أسر لي عاشور الطويبي بحكمته، ووضع النقطة على لساني ابراهيم الجرادي، وعصام طنطاوي حين ترقرقت عيناه متفاديا أصوات فتت لعبت، ولما تداعى فراس سليمان شوقا إلى مولاه، أما رياض نعمه فحسبه أن سمى صبيه كرم، وجمانه مصطفى حين تجملت بعصابة بدلا عن الرجفة، مثل ريم البيات حين تزيّت بأحمر الوداع، قرأت ذلك في دهشة وبوح جيمس بيرن، مثلما تلطف بنا حسكو حسكو بالسخرية كي لا ننكسر فرادى، في سرعة عبور غسان جواد، و الهالة التي كللت رأس زكريا محمد، وخليل صويلح في صمته الثاقب، أجساد ريم يسوف الطالعة من البلل، جدل الفزع والطمأنينة في حلم رؤية عيسى، والناسك في مداره محمد الوهيبي، صدى رولا حسن في منازل تعرفها من جديد، في صدع الجبل لما تنكس ليسمع همس يسبر برغ و في صفو دانه العمري، سهم زاهر الغافري والتحامه السريع، أناهيد سركيس وهي تحنو، سفر جبر علوان المؤجل، عينا نادر عمران الوالهة، رقصة عرس سمانثا البدوية، رقة ياسر صفا على نحاس، شكران لما تتأمل، تروّي أميره أبو الحسن، فيلم علي وهمام المنتظر، تلفت أثمار عباس، النهر مع هند المجلي وجولان حاجي حين ترجمنا معا في قصيدة نثر. 
هكذا علمني أصدقائي 
هكذا كلمني حبي وامتلائي بها: 
عليه أن يرجف وينكب على وجهه ويخر ساجدا. 
أحمد الملا (شاعر سعودي)