9 يوليو 2010

القارورة | يوسف المحيميد

يوسف المحيمد
السوق الذي ينام ليلاً كجسد بائعة لعب الأطفال كان ينصت قليلاً، وهو يتسلى بلعبة شاب يافع ويقظ، عيناه مثل عيني طير يلحظ الفرائس من علو شاهق، وهو يحاول مع بنت يانعة الجسد، يكاد جسدها ينطق من تحت عبائتها السوداء، إذ كانت أعينهما تتحاور و تتآمر على العالم الصغير حولهما،
حتى أشار لها بقبضتها التي تلمّ روح رقم هاتفه المنزلي، ففهمت وهزّت رأسها بحذر، ثم وهبته الفرصة وهي تتخذ ركناً قصيّاً من محل السيدة الأنيقة للملابس الجاهزة، بعيداً عن أمها و اخويها الصغيرين، لتفتعل تقليب بلوزة حريرية ناعمة بين يديها البيضاوين، كي يمرّ بجوارها في اللحظة التي أفردت أصابعها لتتلقّف أرقام هاتفه السبعة.
حلَّق صوتاهما في سماء المدينة، وصارا يوقظان العتمة والسهر، يتعرفان على روحيهما الشقيقتين المولعتين بالعشق والوله.اسمها فاطمة، أما هو فكان له اسمان كالعادة، اسم له ولبطاقاته وللجامعة وللأهل والأقارب والأصدقاء، واسم فني لصيد النساء والمراهقات الجائعات، كان بندر اسم يليق بشاب ثريّ من طبقة أرستقراطية عريقة، أما معيض فهو غير مناسب إطلاقاً للتعرف والغزل، قدر ماهو مناسب لطلب مساعدة أو منحة أرض.
كل شيء في هذه المدينة يحمل نقيضين، كأنما هي ذوات انفلقت إلى شظايا، في داخل كل شخص شخصان أو أكثر، شخص الظاهر وشخوص الباطن،شخص محترم ومهذب ومخلص ومنفتح في الظاهر، وفي الباطن والعمق شخوص عديدون للصوص وخونة ومنغلقين ومتزمتين. كان الناس يستبدلون الشخوص في داخلهم كالملابس تماماً تبعاً للحالة والطقس والمكان والظرف المصاحب.

كان حمد الساهي في قصره الصغير يفكر في المدينة التي تحوّلت إلى جنازة، يحيط بها الصمت من جميع الجهات، كان يتذكر لذة الشاشة الفضية التي تفيض عليه بمغنية جميلة كسميرة توفيق التي أحبها، وهي تشبه فرساً أصيلة لحظة تضجّ حنجرتها: ((يالله صبّوا هاالقهوة وزيدوها هيل)) كان يتذكر أم كلثوم وهي تطوّح لساعات طويلة بمنديلها الشهير، ويسأل نفسه كيف منعوا هذه الأشياء الحلوة، بعد عام1981م؟ كيف تحوّلت الحياة إلى الزيف بدلاً من البساطة،وأين حديقة الحيوانات والمنتزهات التي كنّا، أنا وأم صالح، وصغارنا ندخلها معاً؟ لِمَ صار علينا أن نقف خارج الأسوار مع السائقين الهنود والبنغاليين بينما نساؤنا يدخلن من الأطفال في المنتزهات؟
تذكر الساهي هؤلاء اليمنيين وهم يتزاحمون كل يوم جمعة عند بوابة نادي النصر في شارع الخزان، ليتمتعوا بالفيلم الأجنبي الأسبوعي في قاعة السينما! أيّ سينما في مدينة صارت مثل جثة؟ أين المحلات التي كانت تبيع أغنيات علي الأحسائي و محمد عبده؟

* مقتطفات من فصول رواية (القارورة) يوسف المحيميد / المركز الثقافي العربي-2004 | المسيرة الالكتروني

المسيرة بودكاست
من حلقة اضاءات مع يوسف المحيمد