9 يونيو 2010

سيد الجنائز | ياسوناري كاواباتا

ياسوناري كاواباتا
1
منذ نعومة أظافري وأنا متشرد بلا بيت آوي إليه، والإجازات المدرسية أقضيها مع أقاربي متجولا من منزل إلى آخر، لكن أغلب تلك الإجازات كانت في منزلين لاثنين من أقاربي الحميمين جدا.
هذان المنزلان يقعان شمال وجنوب نهر (يودو). أحدهما في مدينة بإقليم (كاواتشي) والآخر في قرية جبلية بإقليم (ستسو). كنت أتنقل بينهما بقارب صغير . لم يحدث أن حللت بهما ضيفا ثقيلا ، بل على العكس فقد كنت أشعر دائما أنني في منزلي وبين أهلي.
أنا الآن في الثانية والعشرين من عمري، في عطلة الصيف حضرت ثلاث جنائز في أقل من شهر، وفي كلّ مرة أرتدي معطف أبي الحريري الذي أورثه لي، وتنوراته الطويلة وجواربه البيضاء واحمل في يدي مسبحة بوذية.
الجنازة الأولى كانت في فرع من إحدى أسر (كاواتشي) حيث توفيت أم شيخ العائلة التي أوهنها كبر السن. يقولون : إن لها أحفاداً في ثلاثينياتهم ،وأنها تقلّبت على فراش المرض لمدة طويلة. لك أن تقول أنها ذهبت إلى حتفها غير مأسوف عليها. عندما حدقت في هيئة الشيخ الكئيبة وعيون الحفيدة الحمراء بدا لي مقدار ما يشعرون به من حزن عميق، ولكن قلبي لم يحزن على هذه المرأة . لم يخالطني شعور بموتها ورغما عن إشعالي للبخور قبل المذبح إلا أني لم أتعرف على وجه المرأة التي ترقد في التابوت. لقد غاب عن ذهني أصلا وجود أحد فيه.
قبل أن يخرجوا بالنعش ذهبت وأديت واجب العزاء في ثيابي التي أعددتها لمناسبة كهذه والمسبحة والمروحة في يدي بالطبع يرافقني ابن عمي القادم من ( ستسو) والذي يكبرني سناً. ظهر ما قمت به مقارنة بتصرف ابن عمي لائقا ومناسبا أكثر لمناسبة جنائزية كالتي نحضرها، كل هذا وأنا الأصغر سنا . شعرت بارتياح وأنا أودي واجبي على أكمل وجه، أما ابن عمي الذي أدهشته تصرفاتي فقد سلك طريقي وقلدني. في البيت الكبير تجمّع خمسة أو ستة من أبناء العمومة غير مكترثين برسم الحزن على ملامحهم.
وبعد أسبوع تقريبا كنت في (كاواتشي) عندما تلقيت مكالمة هاتفية من ابن عمي الأكبر في(ستسو).هناك جنازة في بيت من بيوت العائلة التي تزوجت فيها أخته الكبرى .قال لي: "وأنت أيضا لا بد أن تذهب." وعلى ما يبدو فإن أحد أفراد تلك العائلة قد حضر جنازة لعائلتي في السابق. اصطحبت ابن عمي كرفيق سفر. ركبنا القطار وعندما وصلنا إلى منزلهم معزين لم أتمكن من معرفة أيهم ينتمي إلى العائلة ما عدا النادب الرئيس، ولا حتى عرفت من هو الذي مات؟ منزل ابنة عمي كان مكان راحة للحاضرين، ولكن عائلة زوجها كانوا في غرفة منفصلة. أما الغرفة التي كنت فيها فلم يتحدث أحد عن الميت. كل ما فعلوه هو قلقهم من تزايد شدة الحرارة وسؤالهم عن وقت مواراة الميت. من فترة لأخرى يرتفع سؤال: "من الذي مات وكم عمره؟" وفي هذه الأثناء تجولت في الممرات بانتظار وصول الجنازة.
في وقت متأخر من ذلك الشهر طلب مني ابن عمي أن أذهب بدلاً عنه إلى جنازة لأحد أقرباء زوج أخته الكبرى دون علم بالعائلة التي تتولى مراسيم العزاء ولا اسم القرية ولا مكان المقبرة. ونحن نتجاذب أطراف الحديث قال مازحا :"لم أطلب منك الذهاب إلا لأنك سيد للجنائز."
عقدت الدهشة لساني، ولأنا كنا على الهاتف فإنه لم ير تعابير وجهي. وافقت على الذهاب للجنازة الثالثة . في منزل (كاواتشي) حيث تلقيت المكالمة ابتسمت زوجة ابن عمي بامتعاض: "كأنك حانوتي!!" حدقت في وجهي ثم واصلت خياطتها. قررت أن أبقى في منزل (ستسو) تلك الليلة ثم أغادر من هناك في الصباح التالي ذاهبا إلى حيث الجنازة ،ومن أجل ذلك فقد عبرت نهر (يودو).
ضحك ابن عمي في التلفون وإطلاقه عليّ لقب "سيد الجنائز" حرك فيّ ردة فعل تجاهه، فقد جعلتني تجاربي الماضية حساساً جدا خصوصا لمثل هذه الكلمات. والحقيقة أنني منذ طفولتي وأنا أشارك في تشييع جنائز أكثر مما أستطيع أن أحصيه ، ليس فقط في وفاة أقاربي ولكني أيضا مثلّت عائلتي في القرى الريفية حيث يجتهد الجميع لحضور جنائز بعضهم البعض.
مارست كل العادات الجنائزية في إقليم (ستسو) وأعرف أيضا تقاليد جنائز الأرض الطاهرة وطوائفها الجديدة ،وحتى جنازة (نيتشرين) لم أضيّع فرصة حضورها، كما شهدت اللحظات الأخيرة لخمسة أو ستة من الذين أستطيع تذكرهم الآن . وأتذكر أيضاً ثلاث أو أربع مرات قمت فيها بتطرية شفاه الميت بالماء الأخير. وأشعلت البخور الأول وأيضا ما يسمى ببخور الوداع، وشاركت في مناسبات عديدة يجمع فيها رفات الميت ويوضع في إناء، بالإضافة إلى معرفتي بالطقوس البوذية في اليوم التاسع والأربعين من الوفاة.
لم أقابل الثلاثة الذين شاركت في تشييع جنائزهم ذلك الصيف أبداً ، ولا وجدتُ طريقة أتمكن بها من الانغماس في حزن شخصي ،ولكن الأمر يختلف عندما أكون في المقبرة فأثناء إشعال البخور أطهر نفسي من الهواجس الدنيوية وبصمت أدعو لراحة الميت. لاحظت جيدا ما يفعله معظم الشباب فهم يحنون رؤوسهم تاركين أيديهم تتدلى ، أما أنا فأضمّ كفيّ إلى بعضهما مما جعل الناس يعتقدون أني أتقى وأصدق من الآخرين الذين لهم علاقة محدودة بالمتوفى.وما جعل هذا الانطباع يسود عني هو أن الجنائز تقودني للتأمل في حياة وممات أقربائي، وفي هدأة التأمل يسكن قلبي. كلما بعدت قرابتي عن الميت كلما شعرت برغبة جامحة للذهاب إلى المقبرة ترافقني ذكرياتي الخاصة :لكي أشعل البخور، وأضمّ كفيّ إلى بعضهما في إخلاص حميم لتك الذكريات.ومع أني شاب في مقتبل العمر إلا أن سلوكي المحبذ هذا في جنائز الغرباء ليس شكليا ولا زائفا، بل على العكس فهو لإظهار سعة الحزن الذي يكمن في داخلي.
2
لا أتذكر شيئاً عن جنازة والديّ، ولا أتذكر شيئاً عنهما عندما كانا على قيد الحياة.
يقول الناس لي:" لا تنس والديك. تذكرهما على الدوام." ولكني لا أستطيع بالرغم من محاولتي. عندما أشاهد صورة لهما تصدمني لا على أنها مجرد لوحة ولا كائن حي... شيء ما بين بين، ولا من فيها قريب أو بعيد... ولكن شيء ما بينهما. أشعر بتوتر محرج وغريب حينما نقف أنا والصورة في مواجهة. عندما يتحدث أحد عن والديّ لا أجد الطريقة المثلى للاستماع وتبقى رغبتي الوحيدة هي إنهاء ذلك سريعا، حين يخبرونني بتأريخ وفاتهما وعمرهما عندما ماتا، فإني أنسى حالاً تلك التواريخ كما لو أنها مجرد أرقام عبثية.
سمعت من عمتي أني صرخت وانفعلت في يوم جنازة أبي ، وطلبت منهم : "لا تقرعوا الجرس في المذبح. أطفئوا الضوء. واسكبوا الزيت من الإناء بعيدا في الحديقة." هذه هي القصة الوحيدة التي أثارتني بشكل غريب.
قدم جدي من طوكيو عندما كانت تسمى باسمها القديم (ايدو). تخرج والدي من مدرسة طبية في طوكيو . ثمة تمثال برونزي لرئيس المدينة في مقبرة (يوجيما تينجين).وفي أول يوم أحلّ فيه بطوكيو أطلعوني على ذلك التمثال. لقد جعلني أشعر بشيء غريب. تمثال برونزي يعطي انطباعا غريبا الحياة ،لقد جذبني كثيرا لأحدق فيه.
كانت جنازة جدتي في السنة التي التحقت فيها بالمدرسة الابتدائية. جدتي وجدي هما اللذان ربياني إلى أن توفيت جدتي عندما شعرت أنها اطمأنت على مستقبل طفل مريض مثلي. أمطرت بغزارة في ذلك اليوم، وبسبب ذلك حملني أحدهم على ظهره إلى المقبرة ، وكذلك أختي ذات الأحد عشر أو الإنثى عشر خريفا على ما أعتقد حملها أحدهم أمامي صاعدين طريق الجبل الترابي.
أيقظ موت جدي فيّ المشاعر الحقيقية الأولى عن مذبح عائلتنا. وفي اللحظة التي لم يكن جدي يرقبني اختلس نظرة لمذبح العائلة المشع في الحجرة الخاصة به. تكرر أن فتحت الباب المنزلق فتحة صغيرة في غفوة جدي ثم أغلقه من جديد ، وأتذكر أنني كنت أكره فتح ذلك الفاصل المنزلق بأية حال. وحقيقة الأمر أني كرهت الدخول للمذبح . وكلما انظر في ضوء الشمس الخافت وهو يغسل قمم الجبال بعد نزولها تحت الأفق أفكر في الضوء المنبعث من مذبح العائلة وكأنه يترقبني وأنا لا أزال في سنتي الثامنة . خربشت بخط تلميذ في صفه الأول اسم جدتي البوذي الطويل على الفاصل الأبيض المنزلق المؤدي إلى حجرة المذبح. بقيت تلك الخربشات هناك حتى بعنا البيت.
وبعد سنوات الشيء الوحيد الذي أستطيع تذكره من هيئة أختي وهي تُحمل على ظهر الرجل هو ملابس حدادها البيضاء. أغمضت عيني لعلي أمسك بتلابيب تلك الصورة فلم أر إلا المطر وطين الطريق الأحمر.يؤلمني أن الرؤية في مخيلتي لا تضاهي الأحداث الحقيقية، وحتى الرجل الذي حملها لم يتجسد هو أيضا في مخيلتي، ولذا فإن ذلك الكائن الأبيض الغض العائم في الهواء هو فقط ما تحمله ذاكرتي عن أختي.
نشأت أختي في بيت أحد أقاربنا منذ أن كان عمري أربع أو خمس سنوات وماتت هناك عندما بلغت الحادية عشرة أو الثانية عشرة، وكأني لم أعرف لا أصل أبي ولا أمي ولا حتى أختي.
شجعني جدي أن أحزن على فقدها . فتشتُ قلبي، فإذا بي أرتبك لأني لم أجد الطريقة التي أسلم بها روحي للحزن، إلا أن رؤيتي لجدي المنهك وحزنه الذي قد بلغ حده هي بالفعل ما ملأ قلبي ألماً. اتجهت عواطفي إلى جدي لتسكن إليه غير تاركة أي مؤشرات بتحولها إلى أختي.
درس جدي وتفوق في فنون العرافة، ولكن عيناه أقلقتاه فأصبح في سنواته الأخيرة وكأنه أعمى. سمع أن أختي في يد الموت فهرع يقلّب عصيّ عرافته، وبصمت تكهن بعمر حفيدته.
ضعف بصره جداً لدرجة طلبه مساعدتي في تصفيف تلك العصيّ. حدقت في وجه جدي الذي بدا أن السنين قد وضعت بصمتها عليه والنهار يواصل اقترابه من الليل شيئاً فشيئا. بعد أيام استلمت رسالة ليس بها إلا كلمتان أو ثلاث عن وفاة أختي ، لم أمتلك القدرة لإخبار جدي بها. أخفيت الرسالة ساعتين أو ثلاث قبل أن أقرر أخيراً قرائتها عليه.
في ذلك السن كنت بالكاد أقرأ الحروف الصينية ، ولكن عندما يأتي الأمر إلى قراءة أحرف مكتوبة بالطريقة المتشابكة فإني لا أفهم شيئاً. وفي العادة آخذ كف جدي وأمررها عليها مراراً وتكراراً حتى يستطيع التعرف عليها . وإلى الآن فعندما أتذكر يده وأنا امسكها وأقرأ عليه الرسالة فإن كفي الشمال تبرد.
مات جدي مساء جنازة الإمبراطورة (دواجر). أنا الآن في صيف السنة السادسة عشرة من عمري.
همّ أن يتنفس فنشبت نخامة في حلقه. قبض على صدره، وقالت امرأة بجانب سريره: "كأنه بوذا ! لماذا يعاني المسكين في لحظاته الأخيرة؟" لم أحتمل مشاهدته وهو يتعذب، ولذا انصرفت إلى حجرة أخرى في الساعة التي تلت ذلك الموقف. بعد سنة تقريبا لامتني إحدى بنات عمي لذلك الشعور البارد تجاه أقرب إنسان إليّ. أمسكت بزمام الصمت، فليس بجديد عليّ أن تفسر تصرفاتي بتلك الطريقة .في طفولتي لم أحبذ
التعبير عن نفسي. كلمات تلك المرأة العجوز جرحتني جرحاً عميقاً ، فذهب تفكيري إلى أن عدم وقوفي بجانب جدي حينما داهمه الموت إهانة له . بعدها ، بعد أن أصغيت إلى تأنيب ابنة عمي صامتاً، الوحدة التي فارقتني زمناً عاودتني فجأة وغاصت في أعماق أعماقي، ولازمني إحساس بأني الوحيد على وجه الأرض من سكنته الوحدة وتفردت به الوحشة.
في يوم الجنازة وأنا استقبل الضيوف الكثيرين الذين أتوا للعزاء شعرت فجأة بأنفي ينزف، وحينما أحسست بنزول الدم غطيت أنفي بطرف قميصي وخرجت حافياً على بلاط الحديقة.
استلقيت على ظهري في ظلّ شجرة على الصخرة الكبيرة التي يبلغ ارتفاعها حوالي ثلاثة أقدام في مكان لا يراني فيه أحد منتظراً أن يتوقف النزيف. تسلل ضوء الشمس الباهر خلال أوراق شجرة البلوط العتيقة مما مكنني أن ألمح أجزاء صغيرة من السماء الزرقاء. أعتقد أن هذه هي أول مرة في حياتي يحدث لي مثل هذا النزيف الذي جعلني مستوعبا لمدى ألمي على موت جدي، ولأني الوحيد في العائلة كثير الضيوف وشغوف بالجنائز حضورا وتشييعا وتعزية فلم يسعفني الوقت لأنتبه لحاجات نفسي. وإلى الآن لا أستطيع التفكير في موت جدي أو إلى أي مدى سيؤثر على مستقبلي، لأني لا أضع نفسي في عداد الضعفاء، إلا أن ذلك النزيف أحبطني قليلاً. لم أشأ أن يفسر اختفائي المفاجئ بالضعف، فأنا النادب الرئيسي والجنازة على وشك أن تجيء . لم يبرر أحد تصرفي هذا مما أثار ضجة كبيرة. خلوت بنفسي على صخرة الحديقة للمرة الأولى في الأيام الثلاثة منذ أن توفي
جدي، حيث تولّد في قلبي شعور غامض بنفور الناس مني وتخلّيهم عني.
ذهبت في صباح اليوم التالي إلى حيث تجمهر الناس بانتظار عملية الحرق مع ستة أو سبعة من أقاربي ويصحبنا أصدقاء قرويون . لم يكن لمحرقة الموتى الجبلية سقف ،وحين تسلمنا الرفات لم تزل هناك طبقة من النار تحترق في الأسفل .ونحن نلتقط العظام من النار بدأ أنفي ينزف ثانية. ألقيت بعيدان الخيزران التي تستخدم كحطب وأرخيت وشاحي متمتماً بكلمة أو كلمتين وسددت أنفي ثم انطلقت راكضا إلى أعلى الجبل .لم يتوقف النزيف كاليوم الأول برغم محاولاتي المتكررة. يداي غطاهما الدم الذي تقاطر حتى على رؤوس العشب. وبينما كنت مستلقياً على ظهري في هدوء نظرت إلى البحيرة في سفح الجبل، أشعة شمس الصباح الراقصة على سطح الماء انعكست عليّ من بعيد وجعلتني أشعر بدوار.ضعفت عيناي وبعد نحو ثلاثين دقيقة سمعت أصواتاُ بعيدة تكرر ندائي. ساءني وشاحي الذي أضحى منقوعاً بالدم، ولكن بصيص الأمل في عدم ملاحظته لم يخفت لأن لونه أسود. عدت إلى المحرقة فإذا بأعين الحاضرين جميعا ترشقني بسهام اللوم والتأنيب فالعظام مكشوفة، ولذلك فقد طلبوا مني أن التقطها. وبقلب بائس التقطت العظام الصغيرة ثم ارتديت وشاحي الذي جعله الدم المتخثر جافاً بقية النهار. توقف النزيف الثاني ولم يلاحظه أحد، ولا أنا بحت به لأحد أبدا. وإلى الآن لم أحك أي قصص عن عائلتي ولا سئلت عنهم إطلاقاً.
نشأتُ في الريف بعيدا عن المدينة ولذا فلست أبالغ إن قلت أن كل أفراد الأسر الخمسين في قريتنا أشفقوا عليّ وشاركوني حزني. وقف القرويون في تقاطع الطريق بانتظار موكب الجنازة. كنت أمشي أمام الجنازة وتحديداً أمام صندوق النعش . رفعت النساء أصواتهن بالنحيب .سمعتهن يصرخن :"يا لبؤس هذا الصبي!" شعرت بالحرج وتقدمت في سيري الذي بدا الجفاء على خطواته. بعد تجاوزي للتقاطع سلك النساء الواقفات هناك طريقا مختصرا آخر من أجل أن يلاقين موكب الجنازة ثانية فيجهشن ببكائهن.
منذ صغري وتعاطف جيراني معي يهدد بأن يجعلني موضع شفقتهم. قَبِل نصف قلبي إحسان الآخرين بينما رفضه النصف الآخر وكرهه. جنازة جدي وجنازة أخته الصغرى وجنازة عمي ومعلمي وآخرين قريبين مني ، كل هذه الجنائز سببت لي الكثير من الحزن والألم . أما الملابس الخاصة التي تركها لي والدي فقد لبستها مرة واحدة فقط في مناسبة سعيدة هي مناسبة زواجي، أما المرات الأخرى التي لا أحصيها من كثرتها فإني أرتديها حين ذهابي إلى المقبرة الأمر الذي جعلهم يطلقون عليّ ( سيد الجنائز).
3
الجنازة الثالثة في عطلة ذلك الصيف في قرية على بعد ميل تقريبا من بيت ابن عمي الذي قصدته مسافرا بدون أي تكلف وكأني ذاهب في زيارة عادية. أمضيت ليلة هناك وعندما أوشك موعد رحيلي تبسّم أحد أفراد أسرته قائلاً :" ربما دعوناك مرة أخرى ، فعندنا فتاة مصابة بمرض السل والتي يحتمل ألا تكمل هذا الصيف." فكيف يمكن أن نجري مراسيم أي جنازة بدون وجودك يا سيد الجنائز."
حزمت ملابسي وعدت أدراجي إلى بيت ابن عمي في (ستسو) ،وهناك وجدت زوجته في الحديقة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة جعلتني أحس باعتدال مزاجها.
:"مرحبا بك في بيتك أيها الحانوتي."
:"كفي عن كلامك الناعم هذا وأحضري لي بعض الملح؟" قلت هذا وأنا واقف أمام البوابة بالضبط.
:"ملح؟! ماذا ستفعل به؟"
:"سأطهر نفسي. لن أستطيع الدخول قبل أن أقوم بهذا."
:"ياله من أمر مقزز. كأنك مضطرب نفسيا"
أحضرت حفنة من الملح ورشته عليّ بطريقة غشاها التكلف والزيف. كان ابن عمي على وشك أن يضع قميصي المبلل قليلاً بالعرق والذي خلعته للتو على الشرفة المطلة للشمس لكي يجف.
شمّت رائحته فنظرت إليّ مقطبة حواجبها وقالت بسخرية:" يا للفظاعة … رائحة قميصك كأنها رائحة قبر."
:"إن كنت لا تعرفين رائحة القبر فهذا أمر سيئ حقا."
لا يزال ابن عمي مبتسماً ،:" أعرف حتما أن رائحته كرائحة شعر محترق."
*****************************
من كتاب (راقصة ايزو وقصص أخرى)  1925 ترجمة: حسن الصلهبي
( The Dancing Girl of Izu and Other Stories )
ياسوناري كاواباتا : كاتب روائي ياباني ولد في عام 1899، حاصل على جائزة نوبل للأداب

سيد الجنائز  | ياسوناري كاواباتا