24 يونيو 2010

مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف (قصيدة) - أدونيس

وجه يافا طفل / هل الشجر الذابل يزهو ؟ / هل تدخل الأرض في صورة عذراء؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق؟ / جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل/ صوت شريد .. /
(كان رأس يهذي يهرج في الفسطاط في حضرة العساكر محمولاً ينادي أنا الخليفة) / هاموا حفروا حفرة لوجه غليّ/ كان طفلاً وكان أبيض أو أسود يافا أشجاره وأغانيه ويافا .. / تكدسوا، مزقوا وجه عليّ/ دم الذبيحة في الأقداح، قولوا : جبّانة، لا تقولوا : كان شعري ورداً وصار دماء، ليس بين الدماء و الورد إلا خيط شمس، قولوا : رماديَ بيت وابن عبّاد يشحذ السيف بين الرأس و الرأس وابن جَهوَر مَيْتُ.
لم يكن في البداية
غير جذرٍ من الدمع / أعني بلادي
والمدى خيطيَ - انقطعتُ وفي الخضرة العربية
غرقتْ شمسيَ / الحضارة نقالة و المدينة
                                       وردة وثنية -
                                       خيمة :
هكذا تبدأ الحكاية أو تنتهي الحكاية.
و المدى خيطيَ - اتصلتُ أنا الفوهة الكوكبية
وكتبت المدينة
حينما كانت المدينة مقطورة و النواح
                    سورها البابلي، كتبت المدينة
مثلما تنضح الأبجدية
لا لكي ألأم الجراح
لا لكي أبعث المومياء
بل لكي أبعث الفروقَ .. / الدماء
          تجمع الورد و الغراب / لكي أقطع الجسور ولكي أغسل الوجوه الحزينة
بنزيف العصور،
وكتبت المدينة
          مثلما يذهب النبي إلى الموت / أعني بلادي
                      وبلادي الصدى
                      والصدى و الصدى ..


كشفتْ رأسها الباء، والجيم خصلة شعرٍ، انقرضْ انقرضْ
ألف أول الحروف انقرضْ انقرضْ
أسمعُ الهاء تنشج و الراء مثل الهلال
غارقاً ذائباً في الرمال
انقرضْ انقرضْ
سحر تاريخك انتهى
أدفنوا وجهه الذليل وموروثه الأبلها
و أعذري و أغفري
يا قرون الغزالات يا أعين المها ..
أحارُ كل لحظة أراكِ يا بلادي
                        في صورة،
أحملك الآن على جبيني، بين دمي وموتي : أأنتِ مقبرة
أم وردة ؟
أراك أطفالاً يجرجرون
أحشاءهم، يصغون يسجدون
                      للقيد، يلبسون
                      لكل سوطٍ جلده .. أمقبرة
                                           أم وردة؟
قتلتني قتلت أغنياتي
أأنتِ مجزرة
أم ثورة ؟
أحارُ ، كل لحظة أراكٍ يا بلادي في صورةٍ ..
وعليّ يسأل الضوء، ويمضي
حاملاً تاريخه المقتول من كوخٍ لكوخ :
(علموني أن لي بيتاً كبيتي في أريحا
                        أن لي في القاهرة
                        أخوة، أن حدود الناصرة
                        مكة.
                        كيف استحال العلم قيدا ؟
                        ألهذا يرفض التاريخ وجهي ؟
                        ألهذا لا أرى في الأفق شمساً عربية؟ )
آه ، لو تعرف المهزلة
(سمّها خطبة الخليفة أو سمّها المهرجان
ولها قائدان
واحدٌ يشحذ المقصلة
واحدٌ يتمرّغ .. لو تعرف المهزلة
كيف ، أين انسللتَ
في حصار المذابح .. ماذا ، قُتلتْ ؟
أنظر الآن كيف انتهيتَ ولم تنته المهزلة
مُتََّ كالآخرين
مثلما ينشج الدهرُ في رئة السالفين
مثلما يكسر الغيم أبوابه القزحية
مثلما يغرق الماء في الرمل أو تُقطع الأبدية
عنق القبّرة
كنتَ كالآخرين، انتهيتَ ولم تنته المهزلة
كنتَ كالآخرين - ارفضْ الآخرين
                        بدأوا من هناك ابتدئ من هنا
                        حول طفل يموت
                        حول بيت تهدم فاستعمرته البيوت
                        وابتدئ من هنا
                        من أنين الشوارع من ريحها الخانقة
                        من بلادٍ يصير اسمها مقبرة
                        وابتدئ من هنا
                        مثلما تبدأ الفجيعة أو تولد الصاعقة
مُتَّ ؟ هاصرتَ كالرعد في رحم الصاعقة
بارئاً مثلما تبرأ الصاعقة
أنظرْ الآن كيفَ انصهرتَ وكيف انبعثتَ، انتهيتَ
                        ولم تنته الصاعقة.
أعرفُ ، كان مُلككَ الوحيد ظلُ خيمةٍ، وكان فيها خِرقٌ ،
ومرة يكون ماءٌ مرة رغيف، وكان أطفالك يكبرون
                        في بِركةٍ ،
لم تيأسِ انتفضتَ صِرتَ الحلم و العيون
تَظَهَرُ في كوخٍ على الأردن أو في غزة و القدس
تقتحم الشارعَ وهو مأتمٌ تتركه كالعرس
وصوتك الغامر مثل بحر
ودمك النافر مثل جبل
وحينما تحملك الأرضُ إلى سريرها
تترك للعاشق للاحق جدولين
من دمك المسفوح مرتين ..
وجه يافا طفلٌ / هل الشجر الذابل يزهو ؟ / هل تدخل الأرضُ في صورة عذراء ؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق ؟ / جاء العصف الجميل ولم يأت الخراب الجميل/ صوت شريد ..
سقط الماضي ولم يسقط       ( لماذا يسقط الماضي ولا يسقط ؟ )
دال قامة يكسرها الحزن     ( لماذا يسقط الماضي ولا يسقط ؟ )
قاف قاب قوسين و أدنى
أطلبُ الماءَ ويعطيني رملاً
أطلب الشمسَ ويعطيني كهفاً
سيدٌ أنتَ ؟ ستبقى
سيداً . عبدٌ ؟ ستبقى
غيّر الصورةَ لكن سوف تبقى
غيّر الرايةَ لكن سوف تبقى

في خريطةٍ تمتد … الخ،
حيث يدخل السيد المقيم في الصفحة أ راكباً حيواناً بحجم المشنقة، يتحول إلى تمثال ملء الساحات العامة. و (كانت) الحاكمة تغسل عجيزتها وحولها نساء يدخلن في الرمح ويمضغن بخور القصر والرجال يسجلون دقات قلوبهن على زمن يتكوّم كالخرقة بين الأصابع حيث
ك ترتجف تحت نواةٍ رفضيةٍ بعمق الضوء
ت تاريخ مسقوف بالجثث وبخار الصلاة
أ عمود مشنقة مبلل بضوء موحل
ب سكين تكشط الجلد الآدمي وتصنعه نعلاًُ لقدمين سماويتين في خريطةٍ تمتد … الخ.
شجر يثمر التحول والهجرة في الضوء جالسٌ في فلسطين وأغصانه نوافذ / أصغينا لأفراحه قرأنا معه نجمة الأساطير / جند وقضاة يدحرجون عظاماً ورؤوساً ، وراقدون كما يرقد حلم يُهجّرون يُجرّون إلى التيه …/
من أين، هل البحر قادرٌ ، هل حنان الشمس ؟ / ( _ يكفيني رغيفٌ كوخٌ وفي الشمس ما يمنح فيئاً ، لا لستُ خوذة سيّاف ولا ترسُ سيدٍ، أنا نهر الأردن أستفرد الزهور و أغويها / دمٌ نازفٌ / تبطنتُ أرضي ودمي ماؤها دمي وسيبقى ذلك الساهر النحيل : غبارٌ يمزج العاشقَ المشردَ بالريح، ويبقى نسغٌ/)
يتمتم طفلّ ، وجه يافا طفلّ / هل الشجر الذابل يزهو ؟ /
( - متى أتو ؟ كيف لم نشعر / جبال الخليل يدفعها الليل ويمضي والأرض تهزأ / لم نشعر / دم نازف / هنا سقط الثائر / حيفا تئنّ في حجر أسود و النخلة التي فيّأت مريم تبكي / حيفا تسافر في عينيّ قتيل حيفا بحيرة حزن جَرَحَتْ قلبها وسالَتْ مع الشمس إلينا / هَمَسْتُ في قدمي جوعٌ وفي راحتيّ تضطربُ الأرضُ : كشفنا أسرارنا (بُقعُ الدمع طريقٌ) أجسُّ خاصرةَ الضوء يجثُّ الصحراءَ و الكون مربوطاً بحبل من الملائك / هل تشهد آثار كوكبٍ ؟ يسمع الكوكبُ صوتي رويتُ عنه سأروي ..
في الزمن القاتل شخصٌ رمى تاريخه للنار غطى مدى وجوهنا بحمرة الخجل
و مات /
لن تعرف حرية ما دامت الدولة موجودة /
              تذكر ؟ كان السجن بوابة للشمس كان الأمل
              تذكر . × و القاعدة
              وسلطة العمال .. ) ما الفائدة
              تنحدر الثورة بعد اسمه
              في لفظةٍ ، تمتد في مائدة /
              هل تقرأ المائدة ؟ /
كان فدائيّ يخط اسمه ناراً وفي الحناجر الباردة
                            يموت /
              و القدس تخط اسمها :
              لم تزل الدولة موجودة
              لم تزل الدولة موجودة ..
غير أن النهر المذبوح يجري :
كل ماءٍ وجه يافا
كل جرحٍ وجه يافا
و الملايين التي تصرخ : كلا ، وجه يافا
و الأحباء على الشرفة أو في القيد أو في القبر يافا
و الدم النازف من خاصرة العالم يافا
              سمِّنِي قيساً وسمٍّ الأرضَ ليلى
              باسم يافا
              باسم شعبٍ شرّدته البشرية
              سمِّني قنبلةً أو بندقية …..
هذا أنا : لا ، لستُ من عصر الأفول
أنا ساعةُ الهتك العظيم أتتْ وخلخلة العقول
هذا أنا - عَبَرَتْ سحابة
حبلى بزوبعة الجنون
و التِيهُ يَمرُقُ تحت نافذتي ، يقولُ الآخرون
              ( يرعى قطيع نجومه
              يصل الغرابةَ بالغرابة)
هذا أنا أصلُ الغرابةَ بالغرابة
أرّختُ : فوق المئذنة
              قمر يسوس الأحصنة
              و ينام بين يدي تميمة
وذكرتُ : بقّعتْ الهزيمة
              جسدَ العصور
وهران مثل الكاظمية
ودمشق بيروت العجوز
صحراء تزدرد الفصول، دمٌ تعفن - لم تعد نار الرموز
تلد المدائن و الفضاء، ذكرتُ لم تكن البقية
إلا دماً هرماً يموتُ يموتُ بقّعتْ الهزيمة
              جسد العصور
              .. في خريطة تمتد الخ ،
حيث تتحول الكلمة إلى نسيج تعبر في مسامه رؤوس كالقطن المنفوش، أيام تحمل أفخاذاً مثقوبة تدخل في تاريخ فارغ إلا من الأظافر، مثلثات بأشكال النساء تضطجع بين الورقة و الورقة، كل شيء يدخل إلى الأرض من سمّ الكلمة، الحشرة الله الشاعر بالوخز و الأرق وحرارة الصوت بالرصاص و الوضوء بالقمر ونملة سليمان بحقول تثمر لافتات كتب عليها (البحث عن رغيف) أو ( البحث عن عجيزة لكن استتروا) أو ( هل الحركة في الخطوة أم في الطريق ؟ )
و الطريق رملٌ يتقوّس فوقه الهواء و الخطوة زمنٌ أملس كالحصاة ..
حيث وقف على طرف العمل، وضع الكتاب كالشامة على جبينه ورسم جوقة من الملائكة على شفتيه وأذنيه، أخذ يغرز أصابعه و أسنانه في قصعة الكلام طالت أذناه وسقط شعره وتحوّل، وكان الوقت يشرف أن يصبح خارج الوقت وما يسمونه الوطن يجلس على حافة الزمن يكاد أن يسقط، (كيف يمكن إمساكه؟) سأل رجلٌ مقيدٌ وشبه ملجوم لم يجئه الجواب لكن جاءه قيدٌ آخر و أخذ حشد كمسحوق الرمل يفرز مسافة بحجم لام ميم ألف أو بحجم ص ع ي ه ك ويسير فيها نسيج رايات وبسطاً وشوارع وقبابا ويبني جسراً يعبر عليه من الآخرة إلى الأولى
حيث عبرت
ذبابه وجلست على الكلمة، لم يتحرك حرف، طارت وقد استطال جناحاها عبر طفلٌ وسأل عن الكلمة طلع في حنجرته شوكٌ و أخذ الخرس يدبُّ إلى لسانه ..
              في خريطة تمتد .. الخ ، حيث
(العدو يطغى وهم يخسرون، ويمدّ وهم يجزرون، ويطول وهم يقصرون، إلى أن عادوا إلى عّلمٍ ناكسٍ وصوتٍ خافتٍ، وانشغلَ كل ملكٍ بسد فتوقه،
.. وعندما يجدّ الجد ويطلب الأندلسُ عونَ الملك الصالح لاستخلاص أقليم الجزيرة وقد سقط في أيدي الأسبان يكتفي بالأسف و التعزية ويقول بأن الحرب سجال وفي سلامتكم الكفاية،
.. ولم يزل العدو يواثبهم ويكافحهم ويغاديهم القتال ويراوحهم حتى أجهضهم عن أماكنهم وجفّلهم عن مساكنهم أركبهم طبقاً عن طبق واستأصلهم بالقتل كيفما اتفق)
              في خريطة تمتد .. الخ، رفض التاريخ المعروف الذي يطبخ فوق نار السلطان أن يذكر شاعراً .. و البقية آتية،
في خريطة تمتد .. الخ،
              يأتي وقتٌ بين الرماد و الورد
              ينطفئ فيه كل شيء
              يبدأ فيه كل شيء
.. وأغني فجيعتي، لم أعد ألمحُ نفسي إلا على طرف التاريخ في شفرةٍ / سأبدأ ، لكن أين ؟ من أين ؟ كيف أوضحُ نفسي وبأي اللغات ؟ هذي التي أرضع منها تخونني سأزكّيها و أحيا على شفير زمانٍ مات أمشي على شفير زمانٍ لم يجئ
غير أنني لستُ وحدي
.. وجه يافا طفلٌ / هل الشجر الذابل يزهو؟ / هل تدخل الأرض في صورة عذراء؟ / مَنْ هناك يرجّ الشرق ؟ / جاء العصف الجميل و لم يأت الخراب الجميل / صوت شريد ..
خرجوا من الكتب العتيقة حيث تهترئ الأصول
و أتوا كما تأتي الفصول
حضنَ الرمادُ نقيضه
مَشَتْ الحقولُ إلي الحقول :
              لا ، لستُ من عصر الأفول
              أنا ساعة الهتك العظيم أتتْ و خلخلة العقول .

_____________________

علي أحمد سعيد إسبر المعروف باسمه المستعار ولد عام 1930 بقرية قصابين التابعة لمدينة جبلة في . تبنى اسم (تيمناً بأسطورة أدونيس الفينيقية) منذ العام 1948. متزوج من الأديبة خالدة سعيد ولهما ابنتان: أرواد ونينار. يعتبر أدونيس أحد ألمع رواد القصيدة الحديثة و العربية. درّس في الجامعة , ونال درجة الدكتوراة في الأدب عام 1973 من جامعة القديس يوسف, وأثارت أطروحته الثابت والمتحول سجالاً طويلاً. بدءاً من عام 1955, تكررت دعوته كأستاذ زائر إلى جامعات ومراكز للبحث في و و و . تلقى عدداً من الجوائز العالمية وألقاب التكريم وتُرجمت أعماله إلى ثلاث عشرة لغة. حصل سنة 1986 على الجائزة الكبرى ببروكسل ثم جائزة الإكليل الذهبي للشعر في جمهورية مقدونيا تشرين الأول 1997. رشح عدة مرات لنيل ولكنه لم يحصل عليها حتى الآن.

مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف (قصيدة) - أدونيس