27 مايو 2010

هي المغارة، أنا القاتل | سعد الدوسري

1
أنجو من نشارة الكابوس التي كانت تتساقط من نجمة تهدّم مدارها.
أزحف بفراشي الى ظل نجمة أخرى، فتجفلُ ثم تنضم الى نار نيزك يهوي على تراتيلي.
أردّد فاتحة الدماثة، كي ينكوي الزلزال في زعقته.
لكنما الأرض له؛ سبيّتُه من حربنا معه.
أ
صدّقيني، حين أقول لكِ، بأنني خرجتُ من فيضان الأحذية برأس تُسندُها
صخرة على شكل امرأةٍ، ذات أثداءٍ مُترهلة وحوض تهاوت عظامه الهشة.
عززت نفسي كي أسقط عنها، لكنها تشبثتْ بي،
صرختُ:
- سيغيضون مرة أخرى، وسيُحذئونني.
عوى الهواءُ من حطام حوضها:
- هذه سُلالتي.
2
خفقةٌ تنتزعُ الوحلَ من بطانةِ الصباح، وتلطّخُ بها مرآتي.
حدّقتُ في تجعدات صحوي، فانفرط من بين حاجبيّ فصيلٌ من الرماة،
الذين كانوا قد اطلقوا الجليد على عُريي.
فتحت الصنبور، فأشاحَ الماءُ بوجهه عني.
عُدتُ الى سريري، أذرعُ قلبي جيئةً وذهاباً، حتى اشتعلتْ وسادتي.
ب
لماذا لا تصدقينني؟
هل لأن الصخرة قادتْ رأسي الى مغارتها؟
لقد كان ينتابني صداعٌ غرزَ أسياخَه في عينيّ، أثناء ما كنتُ أقرأ المعوذات للطوفان.
قالت لي:
- سأحميك.
- المغارة باردة.
حملَتْ رأسي. حَضَنَتْه، فغمرَ خدّيَ الدفءُ.
تنامي الى أذني خجلٌ ينبض ببطء، فعرفتُ أن الحياة عاودتْ صخرها.
3
كل قحط يتباهى بجراده. يوقدُ في الأنقاض حشائش جفافه،
ويرتب جماجمَنا في قاطرة من ظلام.
هي القاطرة إذن.
يجتمع أطفالنا على صفيرها. يصطفّون على جانبيّ سكّتها.
وعندما تمر يقذفونها بجلود وجوههم: ثم يركضون الى الأشجار،
ليناموا في أعشاش هجرتْها العصافير.
ج
هل حدث وكذبتُ عليك؟
لقد دهشتُ عندما رأيتُ اللحمَ يكسوها، كلحنٍ فاجأتْه القصيدة.
أوقدتْ أغصاناً جافة، ثم نادتْني.
- تدفأ.
تمددتْ على الرمل.
ثنتْ ساقيها وفخذيها الى بطنها، ثم ضمّتْ ذراعيها الى صدرها،
فغدتْ مثل قربانٍ يهجو الآلهة.
أطفأتُ النار، ثم خرجتُ.
كان الصقيعُ ينخرُ بثلجه قمقمَ المساء.
خفتُ أن أمضي في الأحراش، فلا أجدُ ملجأً يؤويني حين يفيض الطوفان.
رجعتُ أدراجي، لكنني تهتُ.
تعاقبَ عليّ ليلٌ ثم نهارٌ، قبل أن أهتدي لمغارتها.
وحين اهتديتُ، وجدتها قد اشعلتْ أغصاناً أخرى، بين ذراعيها رجلٌ يشبهني.
4
أحيكُ من صوف عزلتي قطعاناً من الخراف،
وأجعلها تتقافز على سياج أرقي، كي أستطيع النوم.
أحسبها عزلةً عزلةً، ثم أسجدُ خلف باب غرفتي مغمضاً عيني، لأشمّ رائحة الشارع.
خُطى العابرين تعجّ بأرضٍ تخدَّر وشمُها، فغابتْ عن هلال الوصف.
تلكأتُ في الشجن، الى أن اجتاح الزلزال بنشازه أغنيتي.
د
أقسمُ لكِ بأنه كان يشبهني تماما.
وجهه المجدور بإنتفاضة العشق. يداهُ اللتان تحيطان ظهرها العاري،
كيَديّ حين أضم هذياني واسترحمه ألاّ يغادرني.
ساقاهُ، وهو يلفُّهما حول ساقيها، مثل ساقيّ لمّا أجدفُ بهما بحر سريري الذي لم ينضجْ بعد.
لا أعرفُ لماذا غرستُ أظافري في ظهره، وأبعدتُه عنها. صرخ بي.
- أين كنت؟
مدّت يديها اليّ، وجذبتْني الى مكانه.
5
آمنتُ أن سيأتي يوم تمشي فيه كل الجرار خلف جنازة الماء.
وأن المسيرة ستهوي في يباس النهر، وستفصدُ الأزهار شهوتها.
حينئذٍ، سينفجر بابي. وسيحبو الشارع بكل كهولته الى غرفتي. وسيستفحل وباؤه في دمي.
هـ
كنتُ أما الشاهد الوحيد، في تلك المغارة.
بعد أن أفرغتْ جنسها فيّ، تحولتْ الى صخرة.
أما هو، فكان على بُعد يديّ.
جززتُ عنقه، فتدحرج رأسي.
ولم يبق هناك، سوى رشقة صرختها، وحجارة سلالتها.

الرياض - سبتمبر 92م
---------------------------------
سعد الدوسري: شاعر و كاتب صحافي من السعودية