28 مايو 2010

وَسواس المُماثلَة | ستيفان مالارميه

أمِنْ كلماتٍ غير معلومة غنّت على شفتيك، أوصالٌ منبوذة لجملة عبثيّة؟ خرجت من شقّتي بإحساس حقيقي وكأنني جَناحٌ مسترسلٌ وخفيفٌ، منسرحاً فوق أوتار آلة، يحلُّ محلّه صوتٌ ناطقٌ لكلمات بنبرة هبوطيّة: "الماقَبْلُ الأخيرة"
على نحوٍ
الماقَبْلُ الأخيرة
ينهي البيت و
ماتت
ينفصل عن
التوقّف المحتوم أكثر عبثاً في فراغ المعنى. خطوتُ بضع خطوات في الشارع فميّزت في رنّة "ما" وترَ الآلة الموسيقيّة المشتدّ الذي كان منسيّاً والذي كانت الذاكرة الجليلة قد مسّته فعلاً بجَناحها أو بسعفه و، إصبعي على حيلة اللُّغز، ابتسمتُ ومتمنّياً أماني فكريّة طفقتُ أتلمّس تأمّلاً مختلفاً.
عادت الجملة، تقديريّاً ومتخلّصةً من سقوطٍ سابقٍ لريشةٍ أو غُصْنٍ، مسموعةً من الآنَ فصاعداً عَبرَ الصوت، إلى أن باتت في نهاية المطاف بمفصلها وحدها، لتحيا من شخصيتها هي. أخذتُ (غيرَ مقتنعٍ بإحساسٍ) أقرأها في نهاية بيت شعريّ و، مرّةً، كمحاولةٍ، أوفّق بينها وكلامي، لا ألبثُ أنطقها بعد "ماقَبْل الأخيرة" بصمتٍ أجدُ فيه لذّةً مضنيّةً: "الماقَبْلُ الأخيرة" ووترُ الآلة، من كثرة امتداده في النسيان على رنّة "ما"، قد انكسر بلا شك، فأضفتُ بأسلوب ابتهاليّ: "ماتت". لم أكف عن العودة إلى أفكارٍ مفضّلة، متعللاً، حتّى أهدئ نفسي، بأنّ ما قبلَ الأخيرة لهو، يقيناً، مصطلح معجميّ يدلّ على المقطع قبل الأخير للألفاظ، ويمكن تفسير ظهورها كبقيّة جهدٍ لغويّ لم تُنكَر كلّياً، جُهدٍ تنتحب خلَلَه يوميّاً حاستي الشعريّة النبيلة لتوقّفها: الرنينُ عينه ومظهر البهتان الذي تتحمّله سرعة الإثبات السَّهْل، كانا سببَ همّ شديد. ضائقاً بالأمر ذَرْعاً، صمّمتُ مُتمْتِماً بنبرة قادرة على العزاء: "ماتت الماقبل الأخيرة، إنّها ماتت، فعلاً ماتت الماقبل الأخيرة اليائسة"، ظاناً بذلك إرضاء القَلَق، وليس دون الأمل السرّي بدفنها في تضخّم الترتيل، عندما شعرت، يا لَلرعب – جرّاء سحر متوتر وسهل الاستنباط – أنّ لديّ، ويداي يعكسهما بابُ المحل المزجّجُ تؤدّيان حركات مُداعَبة تهبطان فوق شيء ما، الصوتَ ذاتَه (الأوّل، الذي كان الوحيدَ قطعاً).
لكنّ اللحظة التي يحلُّ فيها تدخّلُ ما فوق الطبيعة الذي لا يُعترَض عليه، وبدايةُ انقباضِ نفْسٍ يحتضرُ تحته فكري الذي كان سيّداً منذ حين، هي عندما، رافعاً عيني، رأيتُ، في شارع تجّار التحف والعاديّات الذي سلكته بحكم الغريزة، أنّني كنت أمامَ محل عوّادٍ يبيع آلات موسيقية عتيقة معلّقة على الحائط، و، على الأرض، سَعَفٌ أصفرُ وأجنحة منزوية في الظل، لطيور غابرة. لذتُ بالفرار، كمثل شخصٍ غريبٍ ربّما حُكم عليه أن يلبس ثوبَ الحِداد من أجل "ما قبل الأخيرة" التي لا يمكن تعليلها.

ترجمة عبدالقادر الجنابي" الأفعى بلا رأس ولا ذيل... انطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية يليها نماذج عالمية وبيانات فيها "  - دار النهار – بيروت 2002 م |خاص بالمسيرة الإلكتروني